يحكى في هذه الربوع من (شمامه) عن أحد التجمعات القروية التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى, خاصة زراعة الدخن, المعروف محليا ب(البشنه), و كانت مزارعها في غاية الخصب و العطاء, و كانت السنة تشهد خصبا كبيرا, فلم يكن هنالك ما يعكر صفو هذه القرية...
ازدانت المزارع وعم السرور كل القرية, فكان الكبار يجتمعون ضحى حول مائدة الشاي في كوخ شيخ القرية, و مساء تحت الشجرة الكبيرة التي تتوسط الأكواخ.. فيتحدثون عن المحاصيل و ما ستصل إليه في تلك السنة من ارتفاع يثلج صدور الفقراء.. و كانت النساء يتحلقن في البيوتات فتتحدثن عن الزواجات التي لا تنتظر إلا موسم الحصاد..
أما الأولاد الصغار فصاروا يتطلعون إلى السنابل الخضراء التي كانوا يشوونها في مثل هذا الموسم من السنة..
كل فئات المجتمع لم تعد تتحدث إلا عن الحصاد, و لم تعد تفكر إلا في الحصاد..
و لكن.. جرت الرياح بما لم تشته سفينة هؤلاء.. ففي يوم من الأيام أصبحت السنابل مكسرة, و النبتات الخضراء ملقية على الأرض بعد أن تم استئصالها من الأساس.. لا شك أن هنالك من عاث فسادا في الحقول.. و ما كادوا يتبينون إثره حتى عرفوا أنه القرد..
القرد.. هذا الحيوان العابث و العدو للإنسان.. لا بد من القبض عليه في أسرع وقت.. القضية في منتهى البساطة.. صنع جرة لها باب ضيق, لا يسع إلا يد القرد مبسوطة.. ربط هذه الجرة بحبل قوي إلى جذع شجرة, و وضع بعض الحبوب في الجرة..
القرد ذو يد مغلولة إلى عنقه, بحيث إنه إذا ضم يده على شيء لن يبسطها إلا بعد أن ينظر إليه.. فهو حيوان فضولي بالدرجة الأولى, و هذا الفضول هو الذي سيجعله يسجن نفسه..فيده لن تخرج من الجرة مقبوضة الأصابع و القرد لن يبسط كفه إلا بعد أن يرى كل ما في يده...
قبض على القرد و بقي مربوطا إلى جذع شجرة, و أخذ حكماء القرية يناقشون أقسى عقوبة يمكن إنزالها بهذا العدو..
قال بعض أصحاب الفكر العنيف إنه ينبغي أن يسلخ جلد القرد ابتداء من ذيله و يربط الجلد على عينيه و أن يترك يهيم بين الأشجار الشائكة إلى أن يموت.. و قال آخر إنه ينبغي تركه مربوطا و أن يقطع كل يوم أحد أعضائه حتى لا يبقى إلا الرأس فعند ذلك يقطع رأسه..
تحدث بعضهم عن سجنه سجنا مؤبدا, و تحدث بعضهم عن ربطه إلى حجارة من صم الجندل و رميه في النهر كي يغرق إلى الأبد..
كل هذه الآراء وردت و شيخ القرية يلتزم الصمت دون أن يظهر الرضى عن أي منها..
تكلم كل الرجال إلا هو فطلبوا منه أن يتكلم.. عند ذلك اعتدل في جلسته و حرك الطربوش جيدا على رأسه و ثبت عصاه جيدا في الأرض و قال:" كل ما قلتموه لا يعد تنكيلا بهذا المفسد, بل النكال الحقيقي يكون بتركه مربوطا إلى جذع الشجرة و صب الزيت عليه جيدا و بعد ذلك إيقاد النار فيه..."
قرع الطبل و جاء الأطفال بوعاء فيه زيت و تم صبه على القرد و أشعلت النار فيه... و ما كادت النار تشتعل حتى اشتعل الحبل و انقطع.. فتحرر القرد المشتعل و قفز إلى سقف كوخ شيخ القرية فاشتعل الكوخ ثم إلى الكوخ الموالي فاشتعلت فيه النار و امتدت ألسنة اللهيب إلى الأكواخ الأخرى فاشتعلت القرية و وصلت ألسنة النار إلى الحقول فأصبحت كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف فلم يبق أثر لا للقرية و لا لحقولها و لا لسكانها....
شفيق البدوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق