هذه الصورة لمحمد ول امسيكه- الذي أقام الدنيا ولم
يقعدها خلال حياته والذي لا زال موضوعا شيقا للمؤرخين ومادة مؤنسة لأحاديث الناس
– أخذت من الأرشيف الفرنسي وقال عنها رجل من إدڭشمه إنها أقرب الصور لول امسيكه
وأغلب الظن أنها ألتقطت له في ألاك إبان القبض عليه وهناك من عاصره لكنه
فقد البصر وتطابقت أوصافه له مع ملامح هذه الصورة، وهناك من حدثه العلامة محمد
يحيى ولد المنجي، حيث قال: كنت في ألاك يوم جاءوا بجثمان ول امسيكه
يحملونه على حمار بعد غدرته وقد تلّ للجبين ولا زلت أذكر شعر رأسه الكث الجعد
كالحلفاء.
لحى الله صعلوكا إذا جن ليله =مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من نفسه كل ليلة =أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح ناعسا =يحت الحصى عن جنبه المتعفر
قليل التماس الزاد إلا لنفسه =إذا هو أمسى كالعريش المجور
يعين نساء الحي ما يستعنه =ويمسي طليحا كالبعير المحسر
ولله صعلوك صفيحة وجهه= كضوء شهاب القابس المتنور
مطل على أعدائه يزجرونه= بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه =تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها =حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
محمد ولد امسيكه صعلوك بامتياز فالصلوك هو الخارج عن قانون
القبيلته الرافض للظلم المتمرد على العرف سامي الهدف ، ينحدر والده من أسرة من
أهل باركله وأمه من أولاد الفاغ و بما أن كل صعلوك شجاع جواد فإن محمد ولد
امسيكه جواد شجاع كريم يرى مال الله...ومن لديه من مال الله...فعليه مراعاه عيال
الله.
اُفرق جسمي في جسوم كثيرة = وأحسوا قراح الماء والماء بارد
واستجابة لطلب قدمه الزميل Zeidane Brahim فإن من أحسن ما كتب عن ول امسيكه ما كتبه زميلنا ول باني في المشهد
الموريتاني سنة 2008 في الذكرى المؤية لميلاد ول امسيكه وقد شفعها إذاك زميلنا الشاعر
إبراهيم " الثقافة " بقصيدته الرائعة :
كــواك الظـلـم فانقـلـب انتـصـارا=وفـى أفـق الظـلام طلـعـت
نــارا
ومارمـت الخضـوع وكـنـت صلـبـا=وقـد قُلِـبَ الجميـع هنـا
أســارى
معـالـم قـــد أعـــدت بـهــا زمـانــا=طـــواه الـدهــر
وانـدثــر انــدثــارا
قسمت هنا المخاوف يابن مسك=وروعـــت الـمـعـانـد
والـنـصــارى
ولد محمد ولد إمسيكه مطلع القرن الماضي في ضواحي الزغلان
بالقرب من مدينة ألاك وكان يرعي الغنم بضواحي ألاك وقيل إنه ألتحق في بداية
مشوار حياته بالشركة الفرنسية التي كانت تتولي تشييد الطريق الرابط بين لقوارب،
روصو حاليا ومدينة نواكشوط التي ستصبح عاصمة البلاد فيما بعد . فدخل الشاب
الطموح "ولدامسيكة" شركة "صنب
طلي، وأكتتب عاملا "منيفر" فعمل مع الفرنسيين بجد وتفاني، ساعدته
عليهما همته وبنيته الجسدية القوية.. توقع ولد إمسيكه المكافأة والترقية، لكن
الفرنسيين خيبوا آماله، حيث كانوا يستغلون قوة القوي ونشاط المتحمس وهمة المجد،
فيزيدون عليهم العمل دون حقوق أو إمتيازات، بل كانوا يجبرون الأهالي على الحفر
والردم دون أي مقابل وكان "كوميات " أعوان الفرنسيين من الموريتانيين يتولون إرغام
الناس على العمل ويستعملون لذلك كافة وسائل الظلم ليثبتوا إخلاصهم وكفاءتهم
وولاءهم للفرنسيين وكان الأهالي يخفون أولادهم وإذا عثر عليهم
"كوميات" يتعرضون للتنكيل والتعذيب. ذاق ولد إمسيكه مرارة الظلم
والجور وشاهد تعذيب أبناء جنسه، فأمتلأ صدره حقدا وغيظا على الفرنسيين وأعوانهم
"كوميات"، فعقد العزم على محاربتهم والقعود لهم بالمرصاد.
كان ولد إمسيكة قوي البنية شجاعا مقداما راميا، له قدرة
فائقة على التخفي عن أعين الأعداء، يحن على الضعيف ويواسي المحتاج على قلة مافي
يده في أغلب الأحوال، وكان الناس يحبونه ويتعاطفون معه. أغار ولد إمسيكه على
الفرنسيين غارات عديدة وسلب منهم السلاح ونهب الأموال وكانت دائرة تحركه بين
ثلاث ولايات من الولايات الموجودة اليوم هي "اترارزة والبراكنة
وكوركل" فمن ضواحي نواكشوط وتكنت وروصو والمذرذرة وبوتلميت إلى ألاك
ودبانكو وبوكى ولخريزة وأكان إلى كيم ومنكل وشكار ومقطع لحجار، وكان يقوم بعملية
في المنطقة الشرقية وفي اليوم الموالي يقوم بأخرى في المنطقة الغربية من دائرة
عملياته. كانت عمليات "ولد إمسيكه" في الغالب يكتسيها نوع من الطرافة،
ومنها على سبيل المثال أن أحد المخبرين أبلغ مرة أن ولد إمسيكه في مدينة
"ألاك" فبعث الفرنسيون مجموعة من "كوميات"
للبحث عنه والقبض عليه وصادف ذلك أن كان الفنان الكبير المعروف "لعور ولد
إنكذي " يحيي أمسية غنائية في ضواحي المدينة، فذهب "كوميات" إلي الأمسية
يتحسسون أخبار ولدامسيكة - حيث كان محبا للأمسيات الشعبية ومداحا من الطراز
الأول - وكان هو منظم أمسية "لعور" دون أن يعرفه كوميات، فلما انتهت
الأمسية أخذ "ولد إمسيكة " بندقيته وأطلق النار على كوميات مما أفزع الفنان
"لعور" وأنهى الأمسية.
إشتدت ضربات ولد إمسيكه على الفرنسيين وأعوانهم، فأستقدموا
خبيرا "سينغاليا" متخصصا في تعقب الفارين، يسمي " موسى بيدي"
الذي أكد أن مسألة القبض على ولد إمسيكه مسألة وقت فقط. وفي يوم من الأيام أخبر
موسى بوجود ولدامسيكه عند أسرة في بوتلميت يتردد عليها دائما ويقيم عندها ويتزود
بالمؤن وتتستر عليه، فأسرع موسى إلى الأسرة المعنية، وبينما هو في الطريق إذ
قابله "ولد إمسيكه"، فسأله إذا كان يبحث عن ولد إمسيكه، فرد موسي
بالتأكيد، فقال له ولد إمسيكه إتبعني أدلك على ولد امسيكه وراء هذا الكثيب، فلما
تواريا خلف الكثيب إنتزع منه بندقيته وجرده من ملابسه وأخذ جمله الذي كان يمتطيه
وقيد يديه وتركه، فما راع الناس إلا موسي وهو ينزل من الكثيب مقيد اليدين عاريا
وكان الوقت ضحوة.
قبض مرة علي ولد امسيكة ونقل إلي "ألاك" تحت حراسة
مشددة، فأدخل علي الحاكم الفرنسي وقام بينهما المترجم فقال ل"ولد إمسيكه
"الحاكم يقول لك إنك ستسجن في هذا السجن حتى تحاكم .. ونحن على أبوب الخريف
و"ألاك" في الخريف شديد الحرارة والرطوبة وكثير البعوض .. فتبسم ولد
إمسيكه وقال قولته المشهورة التي أصبحت مثلا سائرا بين الناس "كول ذاك إلحد
أمخرّف هون " وفي تلك الليلة كسر باب السجن وذهب لشأنه.
رصد الفرنسيون جائزة مغرية لمن يساعد على القبض على
"ولد امسيكة " وضاعفوها عدة مرات، لكن الرجل ظل مستعصيا لمهارته الفائقة
في أساليب التخفي من جهة ولتعاطف السكان معه من جهة أخرى وحبهم الشديد له، ولكن
لكل أمرنهاية ولكل قاعدة شذوذ، فكان سبب القبض على ولد إمسيكه هو الجشع وحب
المال اللذين لاتصمد أمامهما قاعدة مع أصحاب النفوس الضعيفة، بينما كان
ولدامسيكة في يوم من الأيام يعد الشاي تحت سمرة في فلاة - كعادته -
في ولاية البراكنة قرب منطقة لخريزه، إذ رأى رجلين مقبلين، فأمتشق خماسيته وأخذ
موقعه، فلما إقترب الرجلان إذا بهما صديقين قديمين له يعرفهما في بوتلميت فتبادل
السلام والحديث معهما، ثم قال لهما أنا لاأثق في أحد .. فقالا له كيف تشك في
صديقيك "سام وعبدات" ؟ فوافق "ولد امسيكة" بعدما أعطياه موثقا من الله أن
لايخبرا عنه أحدا، فبدأ كعادته بإكرام ضيفيه، وعلق خماسيته على شجرة قريبة وبدأ
يشوي اللحم لصديقيه، لكن "عبدات"
تذكر أن الجائزة مغرية فتبادل مع زميله
"سام" النظرات والهمسات وكان "ولد إمسيكه" على بعد أمتار
منهما، فقفز "عبدات" إلي خماسية ولد إمسيكة المعلقة على الشجرة،
وصوبها نحو مضيفه الذي أخذ منه العهد والأمان، فأرداه قتيلا وحملاه إلى الحاكم
الفرنسي في "ألاك" حيث تنتظرهما الجائزة حسب إعتقادهما، لكن الحاكم
الفرنسي ثارت ثائرته وأستشاط غضبا وأمر بسجن القاتلين وقال لهما أنا أريده حيا
لأنه مطلوب في "باريس" ولوكنا نريد قتله لقتلناه .. ووفرنا الجائزة
لكننا كنا ندرك صعوبة إعتقاله.
في تلك الصائفة شهدت البلاد ريحا، عرفت "بإريفية ولد
إمسيكه" وصار يؤرخ بها، وتوافق سنة 1950م ودفن البطل "ولدامسيكة"
في مقبرة للأطفال في مدينة ألاك . بعد مقتل ولد امسيكة رآه أحد أصدقائه في
المنام وهو ينشد ڭول إلسام أڭول إلعبدات =والڭوم إلّ ڭبظو بيدي
عن يوم الدنيَ راه فات =نلڭاهم يوم الوعيــد
ملاحظة: هذا موضوع اطلعت عليه في
الفيسبوك ولم أطلع علي مصدره..ولاهمية الموضوع أردت إطلاع القارئ عليه هذا أولا
وثانياهناك رواية أخرى لطريقة قتل ول امسيكه، كنت سمعتها وأنا طفل من عبدات(أحد
قتلة ول امسيكة)، عندما نزل ضيفا عند أسرتنا فبات ليلته تلك عندنا وتشعب الحديث
بينه وبين والدى رحمه الله ووصل الحديث بينهما لطريقة قتلهما ل"ول
امسيكة"، فكانت روايته تتلخص في الآتى" تحدث عبدات عن إكرام ول امسيكه
لهما خلال ذاك المقيل في خلاء وقال إنه إمعانا منه في إكرامهما أخذ ( اخزايم
اجمالهم) ليحضرهم إليهما وهي طريقة بدوية تمثل زيادة فى الإكرام وترك سلاحه
معهما ولما جاء بالجمال قام بوصع (ارواحل) عليهم وعندما حانت لحظة توديعهما له،
نفذا ما كانا قد اتفقا عليه لحظة غيابه تلك، فأمسكاه معا وعندما كاد أن يفلت
منهما خاطب أحدهما الآخر طالبا منه أخذ مسدس(على ما أعتقد) ول امسيكة وقتله كي
لا يصفيهما فقام أحدهما بهذه المهمة فورا ، حيث أردي ولد امسيكه قتيلا بفعل تلك
الطلقة أو الطلقات التى أنهت حياته. وأتذكر من كلام عبدات أن الدافع بالنسبة
لهما كانت إراحة الناس من الوضع المقلق الذي أصبحت الناس تعيشه،كما أنني أتذكر جيدا
أن عملية القتل تلك لم تك تحظي بشعبية داخل أوساط الناس الذين لا يرتبطون
بالمستعمر وليس لهم أقرباء يعملون مع المستعمر. .هذه رواية أردت إطلاع قارئي هذا
المقال عليها، لتعميم الفائدة وخدمة للحقيقة.
وقد روي معاصرين له أنه تعرض لضرب شديد ومعاناة علي يد أحد
ساكنة الزغلان الذي كان عسكريا مع الفرنسيين وأدت تلك المعاملة إلي أن قام ولد
امسيكه بالإنتقام منه بحيث أتلف بعض ممتلكاته وهرب فما كان من الرجل الذي تعرض للإنتقام
إلا أن قفا أثر ولد امسيكه حتي ظفر به فوجده نائما وهو واقف ويده علي الزناد
ويسند ظهره لشجرة ،فجاء به بطريقة مذلة أدت إلي عملية انتقام جديدة من الرجل
الذي أعتقد أنه يدعا ولد بهده وبعدها قرر ولد بهده هذا مصادقة ولد امسيكه فأصبحا
صديقين حتي النهاية.. كما أن الفرنسيين قاموا بجمع ساكنة ألاك وتلاميذة المدارس
الابتدائية ليتفرجوا علي جثة ولد امسيكة، حيث كانت موضوعة فوق طاولة وقد بدأت
تتعفن.. في خطوة تسعي إلي إذلال الجميع وتبيان أن من يواجه فرنسا فهذا هو ما
سيكون مصيره.
كما أن معاصريه من سكان ألاك وجوارهم يؤكدون أنه كان هناك
تعاطف كبير مع ولد امسيكه بوصفه مجاهدا يقاتل النصارى وأعوانهم.
محمد المختار :مدير موقع "النهار الموريتاني"
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق