يحكى في هذه الربوع من صحراء الملثمين عن أحد الرحالة العرب أنه زار مدينة حمص السورية لأول مرة في حياته.. و كان دخوله المدينة مصادفا لوقت صلاة المغرب.. ارتفع صوت النداء للصلاة فإذا بالمؤذن الحمصي يقول:" أشهد ألا إله إلا الله و أن أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله..", استغرب الرحالة المسلم هذه الصيغة, و لكنه توجه صوب المسجد لأداء الصلاة.. وهنا كانت المفاجأة الثانية:.. رجل سبعيني يجلس في فناء المسجد و حوله تحلق رجال في سنه أو كبروه, و بيد الرجل اليمنى زجاجة خمر أما يسراه ففيها نسخة من المصحف.. كان الرجل يردد بين اللحظة و الأخرى:" أقسم بحق هذا المصحف على أن هذه الخمر أنقى من جميع الخمور بما فيها خمر( بيسان) و خمر (ساباط).. و كلما أقسم الرجل قال أحد رجال الحلقة:" و أنا أشهد أنك عدل مبرز!..."
استغرب الرحالة ذلك و لم يطل انتظاره حتى قدم إمام المسجد و تقدم للصلاة و لكنه كان يخرج إحدى رجليه من المسجد و يتوكأ على عصا مما يساعده على أداء أركانه و هو بهذه الوضعية.. لم يكد الرحالة يتمالك عندما رأى هذا المشهد, فسأل عن مفتي المدينة فقيل له إنه هو نفسه قاضي المدينة و أنه شيخ وقور عالم و عامل و ورع و زاهد.. إلى غير ذلك من النعوت السنية..
بات الرجل ساهر العين و قد أرقه ما رآه في هذه المدينة, و في الصباح توجه إلى مكتب القاضي..
فتح الرحالة الباب بسرعة ثم سده و تراجع قليلا.. و بعد ساعة فتح الباب بنصفه ثم سده بسرعة وأخذت عيناه تدمعان.. سأل بعض الحاضرين هل أنتم مـتأكدون أن هذا هو القاضي و المفتي؟ أجابوا بنعم, و أثنوا على القاضي مرة أخرى..
انتظر الرحالة و انتظر و بعد فترة خرجت فتاة في السادسة عشرة من عمرها من مكتب القاضي.. و عند ذلك ارتفع صوت القاضي من داخل المكتب:" من بالباب؟"... دخل الرحالة فوجد القاضي جالسا و قد كور عمامته بدقة فائقة.
سلم الرحالة على القاضي و جلس.. و بعد فترة صمت وجيزة قال له:" أنا رحالة من بلاد المغرب الإسلامي و قد دخلت هذه المدينة البارحة فعنت لي إشكالات أردت أن أسألكم عنها.. فقال القاضي تلك الكلمة التي تشبع نهم المتطلعين دائما.." سل عما بدا لك.."
فقال الرحالة أريد أولا أن أسألك عن قضية عرضت لي عند ما فتحت باب مكتبك فقد وجدت أمامك هذه الفتاة و قد تجردت من كل ثيابها, فلئن كانت من محارمك فإنه لا يجوز لك النظر إليها في هذه الوضعية.. فقال القاضي:" الفتاة ليست من محارمي و لكنها فتاة يتيمة و قد ادعى كافلها أنها بلغت فأردت أن أتحقق من ذلك بالنظر إلى مواطن من جسمها تثبت بلوغها.. " فقال الرحالة:" هذا لا يجوز, و لكني رأيت إمام المسجد و هو يخرج رجله خارج المسجد أثناء إمامته للمصلين, فما خطبه؟
رد القاضي على الفور:" كان في رجله نجس فما استطاع إزالته, فلا ينبغي لتلك الرجل النجسة أن تدخل المسجد.."
فقال الرحالة:" و الرجل الجالس في فناء المسجد و المقسم على نقاوة الخمر؟" فقال المفتي:" نعم تلك قضية خص الله بها أهل هذه المدينة.. لقد نبتت شجرة كرم في فناء المسجد و كانت تثمر أجود أنواع العنب فاتفق أمرنا على أن نصنع منه تلك الخمرة و نبيعها لكي نقتني بها متطلبات المسجد.. فقال الرحالة:" و هذا لا يجوز أيضا, و لكن ما بال المؤذن و صيغة النداء لديه؟ فقال القاضي:" تلك قضية وفقنا الله فيها! لقد كان في حمص مؤذن مسلم حسن الصوت و توفي.. و لم نجد مؤذنا حسن الصوت إلا هذا اليهودي فأجرناه للآذان مع العلم أنه لا يشهد أن محمدا رسول الله, فكان نداؤه بهذه الصيغة!..."
عند ذلك انصرف الرحالة من مكتب القاضي و خرج من حمص في ذات اليوم بعد أن أقسم ألا يعود إليها...
شفيق البدوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق