20 ديسمبر 2016

... من التدوينة السابقة...

... قيمة رسالة الشيخ سعد بوه تكمن في صراحة صاحبها و تفصيلها للحدث الذي أرهب المستعمر قبل تغلغله في البلاد و في شجاعته في كل المواقف التي عرضت له...
و قد تبين من الرسالة أن المستعمر قد قُذِف في قلبه الرُعب من هذه البلاد و سكانها..
و تشهد مذكرات " الرحالة السكير" لذلك... فهذا الرحالة المسمى غاستون دونيه.. دوَن رحلة قام بها من سان لويس في السنغال إلى المغرب و الجزائر، مرورا بموريتانيا.. و قد قدم الرحالة تقريره سنة 1901 تحت عنوان "ولوج الصحراء عبر بلاد البيظان الرُحل" .. و كان دونيه مراسلا لجريدة "لوتانه" الفرنسية.. مختصا في تغطية الحروب..  فتضمن تقريره حديثا مفصلا عن طبيعة السكان الذين التقاهم في طريقه إلى المغرب.. و قدم ما يشبه الرسوم الكاريكاتورية الدقيقة، لا بريشة الرسام،  و إنما بقلم الكاتب و المحلل الدقيق، المهتم بكل التفاصيل..  الذي لا يخلو أيضا من النظر إلى السكان بالنظرة الدونية..
التقى غاستون بأمير ترارزه أحمد سالم ولد إبراهيم السالم و بالعلامة باب ولد حمدي و حمل رسائل " توصيات" إلى أميري لبراكنه، أحمدو ولد سيد إعلي و آدرار، أحمد ولد عيده.. و التقى بأحياء البيظان في حلهم و ترحالهم...
و في ما يلي ننقل لكم الجزء الأول من تقريره.. و هو الجزء الذي يمهد فيه للرحلة.. و يصف أعضاء بعثته.. وصفا لا يخلو من السخرية من السكان المحليين.. على أن ننقل لكم في الحلقة القادمة الجزء الثاني من هذه الرحلة.. و لكننا قبل ذلك نستسمح القراء الكرام إذا اطلعوا في هذا التقرير على ما يجرح الشعور الوطني لديهم.. أو الشعور الديني.. فالتقرير من إنشاء فرنسي مُلحدٍ لدرجة أن مواطنيه الفرنسيين وصفوه ب" الرحالة السِكِير".. لأنه كان مُدمن الشرب حتى في أقسى الظروف التي يتعرض لها.. يقول غاسنون:
"... أطلب من القراء أن يتساهلوا في الحكم على صحيفة السفر هذه. لقد فشلتُ في هذه الرحلة عندما سافرت من سان لويس بهدف الوصول إلى المغرب عبر الصحاري الواقعة بينهما، إلا أن عداوة السكان الأصليين ومرض رفيقي الفرنسي ونقص آليات للتبادل ووسائل النقل أمور أرغمتني على أن أرجع القهقرى وأنا بعد لم أتجاوز تيرس.. أي أن مسار سفري ذهابا وإيابا بلغ 1500 كلم. إن علي أن أعيد الكرة. وسأعيدها طبعا.
مهما يكن، فوِفق معاهدات 1890 فإن الصحراء تعود إلينا. وإننا نرجو، بل إن من واجبنا أن نضع سياسة صحراوية بسيطة تقوم على ربط الجزائر بالسنغال. إنها سياسة بسيطة إذا ما ألقينا نظرة على الخريطة، لكن تنفيذها على أرض الواقع يشكِل معضلة. لقد قيم بمحاولات كثيرة ومحبطة كلها. هكذا، في سبيل ذلك مات دورنو دبيري وجوبير، ومات فلاتير ومرافقوه، كما مات دونَ بلوغ هذا الهدف كامي دولس وموريس ومارسيل بالا وكالو. أما لارغو فاعتقل عند بوابة عين صالح، وكاد سان لا يبلغ تماسين، وطرد بيان من توات، أما فورو فيحاول كل سنة، مدفوعا بمثابرة عالية، لكنه يرجع المرة تلو المرة بعد تعرضه مرارا للضرب والسرقة والنهب.
الشخصان الوحيدان اللذان نجحا في إتمام الرحلة دون النتيجة المبتغاة هما غاستون ميري وبرنارد دتانو.
الرحالة المستكشفون الذين قاموا بمحاولات انطلاقا من الشمال مات جلُهم. أما أنا فسأنطلق من الجنوب. فالسكان الأصليون المحاذون لمنطقتنا الجنوبية (السنغال) أقل عداوة لنا.. لأنه لا توجد أسباب مباشرة تدفعهم إلى ذلك. وهم نسبيا أكثر ودا كما أنهم طيّـعون أكثر من سكان الشمال. وإن الحكم الذي نمارس على جيرانهم في السنغال والسودان (مالي) يفيدهم أكثر مما يغيظهم لأننا نمارسه على الزنوج: أعدائهم الطبيعيين. إذن أعتقد أن رحالة يريد بلوغ هدفه عليه أن يسافر انطلاقا من سان لويس بمحاذاة المحيط الأطلسي حتى الرأس الأبيض ومنه إلى واحات آدرار  فتيرس. وفي آدرار عليه أن يفاوض الأمير أحمد عيده من أجل حمايته حتى يتجاوز مرتفعات إكيدي (الشمالي) المجهولة، فيصل توات وبني عباس وإيكلي وأوران، ومن ثم يكون بمقدوره أن يقدم دراسة وافية عن الأرض التي يراد أن تشكل رابطا بين الشمال والجنوب.
ها نحن في سان لويس مع الوالي الفرنسي السيد دو لاموث.. وهو خمسيني بدين وقصير وثرثار ومرح، قال:
·                إنهم أناس بائسون هؤلاء البيظان. أنتم تعرفون المثل الولفي الذي يقول: "إذا لقيت على طريقك بيظانيا وأفعى، فاقتل البيظاني". لكنه سيكون من المهم جدا أن نصل آدرار رغم صعوبة الأمر. مع العلم أن أحمد عيده شخص كتوم، يريد أن يحقق غاياته الخاصة دون أن يقبل بإشراك الأوربيين. أخيرا بإمكانكم أن تحاولوا، لكنني أشك في إمكانية نجاح المهمة.
إن علي أن أقول بأن الوالي دو لاموث يعارض إرسال أية بعثة إلى شنقيط عاصمة واحات آدرار، لأنه كلف للتو الرجل الذكي جدا، ولد ابن المقداد، بالاتصال بزعيم أولاد يحي بن عثمان، وهو ينتظر بفارغ الصبر نتائج هذه المبادرة. هل نحن بحاجة إلى القول بأن ولد ابن المقداد لن ينجح في مهمته؟.. إننا نحصل دائما على نتيجة سلبية كلما أوكلنا إلى أحد السود (ولو كان أذكاهم) مهمة ربط علاقات سياسية أو تجارية بالبيظان. فبالنسبة للبيظان فإن التكارير و الولوف أقل شأنا وأدنى مرتبة منهم. إنهم عبيد بالنسبة لهم تقريبا. لا يمكن للبيظان أن يفهموا أبدا أن يكلف الأوربيون أحد العبيد بالقيام بمهمة دبلوماسية لدى أمير بربري كثيرا ما يكون ابن النبي أو على قرابة به.
قال الوالي بأنه في الأسبوع المقبل سيمنحنا مترجما ورسالة استيصاء لدى حليفنا أحمد سالم (أمير الترارزه).
بعد أيام من هذا الحديث التقينا مارلين (مدير الشؤون السياسية) الذي قال لنا:
·                لدينا أخبار سيئة. فالإداري المكلف بدكِانه تم اغتياله اليوم على يد بيظاني.
·                ما سبب اغتياله؟
·                كانت هناك مشادة. ولما تدخل فينسان لتهدئة الوضع، أطلق عليه أخ الأمير أحمد سالم النار فأرداه قتيلا لأنه خاف من أن يوقفه الإداري على خلفية المشاجرة.
·                كيف تحدث جريمة مثل هذه على بعد خطوات قليلة من سان لويس؟ وماذا سيترتب عليها؟
·                لا أعرف. لكن أخشى أن يؤدي هذا الحادث المؤلم إلى تمرد داخل ترارزه. على كل حال سأنتقل الليلة إلى دكِانه لأطـّـلع على الوضع عن كثب.
·                وبالنسبة لنا نحن؟
·                ليس عليكما سوى الانتظار.. فالوالي لا يريدكما أن تغادرا في هذه الظروف.
·                كم من الزمن ترى أنه سيبقينا هنا؟
·                لا أعرف. شهر.. شهران...
ونحن في طريقنا مطأطئي الرؤوس نحو مكان سكننا، التقينا مسشار الوالي النقيب تافرنوست. فقال لنا:
·                إذا كان الفراغ قد استبد بكما، وكنتما ترغبان في ساعتين من التسلية، فما عليكما إلا التوجه نحو منزل دينا ساليفو.
·                دينا ساليفو، الملك السابق للينيز؟.. ذلك الرجل الذي أدخل السرور على سكان باريس سنة 1889؟
·                نعم، هو بالذات.
توجهنا نحو منزل جلالته في حي السكان الأصليين.. كان منزلا مبنيا على الطريقة الأوربية.. عندما رآنا دينا استقبلنا أمام المنزل مع اثنين من أبنائه. إنه طويل ونحيف، يقارب الخمسين سنة. كان يلبس فضفاضة بيضاء فخمة شابها احمرار ميدالية الشرف التي علقها عليها باعتزاز.
كان جلالته يحتفظ بذكريات جميلة عن زيارته للمعرض العالمي في باريس.. لقد أعجب بالعديد من المعماريين الفرنسيين. فإذا كان إيفل (صاحب برج أيفل الشهير) لا يتمتع بالكثير من المعجبين في فرنسا، فيمكنه أن يطمئن بأن له معجبين في إفريقيا. فجلالة الملك دينا لا يتوقف عن الحديث عن "هذا الكوخ العالية، العالية، العالية، وكلها من الحديد، مع مصاعد تصعد وحدها...". وكما لو كان دينا يخشى أن يسيء إلينا بعدم الحديث عن عاصمتنا، قال:
·                باريس أيضا، كبير كثير، كبير أكثر من الكل، لا شيء في إندر يمكن أن يعطي فكرة.
·                والحفلة الراقصة حيث تحيط بك الباريسيات الجميلات اللواتي يتدافعن لرؤيتك، هل تتذكرها يا دينا؟
·                الكثير الأنوار.. النساء البيضاوات..
ثم ضحك ضحكة واسعة، واستحى من أن يزيد. إن علينا أن نحترم وخز ضمير الملك لنفسه.. وبعد هدوء خاطف، عاد ليكرر عشرات المرات كيف تم عزله من عرش مملكته، فأردف يقول:
"ذات صباح، كثير صباح.. قبل أن نصل السادسة صباحا، وبأمر من السيد القائد الكبير بالاي، والي..." إلخ، إلخ. ثم قام يعزف مقطوعات إفريقية لتكون خاتمة اللقاء.
قيل لي بأن الأمور بدأت تتعقد بعد اغتيال الإداري. فالبيظان أصبحوا أقل حضورا في محطات النهر، وبالتالي يخشى من أن تتضرر تجارة العلك. كان علينا أن نطلع بأنفسنا على الوضع، لذلك انتقلنا مباشرة إلى دكانه وبودور على الحدود مع ترارزه ولبراكنه.
التقينا في دكانه بمدير الشؤون السياسية السيد مارلين الذي قال:
·                لا يوجد أي تقدم في الملف، ولا أرجو أن نضطر لإلغاء تجارة العلك هذه السنة. الهذر مع هؤلاء البيظان سيضرب بأطنابه. إنهم ملاعين ثرثارون. هل تريدون نصحا؟
·                نعم، قدّمْ لنا النصح.
·                إذهبا إلى بودور، وهذه رسالة بشأنكما إلى الإداري لكليرك. أدرسا معه كيفية ولوج المنطقة عبر بلاد لبراكنه.
بعد مقتل زميله، كان الإداري دكليرك متشائما.. كان يقول لنا:
·                أنا متشائم لدرجة أنني لم أعد أخرج وحدي من المركز. لكنهم لو تركوا لي إرادتي لأخذت معي 30 خيّـالا وأتيت بالمجرم مقيدا، إلا أنهم لا يريدون ذلك. فالتجار يقولون بأن تجارة العلك ستكون مهددة إذا حاولنا استخدام القوة.
بعد لقائنا بالإداري المكلف ب "بودور"، التقينا بمترجمه الذي توصل في نقاشه معنا إلى أن دخول الصحاري عبر منطقة البراكنه غير ممكن في هذه الظروف خاصة أن نقاط المياه قليلة. وبالتالي من الأفضل لنا أن نأخذ مسار فينسان وباني بمحاذاة الأطلس حتى مشارف تيرس.
نحن متيقنان أن هذا الطريق ليس بأكثر أمنا من طريق لبراكنه، والدليل على ذلك هو ما حدث لسوليي أثناء مغامرته قبل سنوات إذ تم نهبه تماما من قبل عصابة من أولاد ادليم على بعد 250 كلم شمال سان لويس ولم ينقذ حياته إلا بتدخل شيخ ذي تأثير. إذن لن نمر بلبراكنه من أجل الوصول إلى آدرار.
عدنا إلى سان لويس، قلت للسيد مرلين:
·                متى ستتركنا الإدارة نغادر؟
·                الأسبوع المقبل، إذا شئتما.
·                ستعطوننا رسائل تتضمن وصية بتسهيل مهمتنا؛ خاصة رسالة إلى جلالة أحمد سالم أمير ترارزه، وأخرى إلى أحمد عيده زعيم  آدرار؟...
·                بالضبط. غدا نمنحكما الرسائل.
·                لابد لنا أيضا من مترجم.
·                بعد الزوال سأبعث به إليكما.
·                والمدافع التي طلبت من وزارة البحرية؟
·                تأخذونها متى شئتما.. لكن قولا لي، مع ما تبديان من إصرار قوي، هل أنتما مستعدان لهذه المهمة؟
·                مستعدان تماما. وقد حضـّرنا عمالا للمهمة وجمالا للحمل.
بعد غد، اتصلنا بالوالي لتوديعه، فقال لنا:
·                هل تعرفان أن السيد ليون فابير، الذي كان قد كلف من قبل الوزارة بمهمة إلى آدرار، توجّب عليه أن يعود أدراجه سريعا؟ وأنه سيكون هنا يوم 10 من الشهر المقبل، وسيكون في حال يرثى له: سقيم، وقد تخلى عنه جزء من مرافقيه، كما تعرض للنهب والسرقة. هذا المسافر الشجاع لم يستطع أن يتجاوز 400 كلم فتوقف عند تاوزيت حيث استقبله بحفاوة سعد بوه وهو شيخ ذو مكانة كبيرة. الحقيقة أن المضي أبعد مستحيل. فأحمد عيده لم يشأ الاستماع لأي شيء. مع ذلك أرجو لكما حظا أوفر. لكن، هل علمتما بما فعل مرلين في دكِانه؟.. فبفضل مجهوداته عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي وسيتم إعدام قاتل فينسان رميا بالرصاص، ولن تتوقف تجارة العلك دقيقة واحدة. أظن أن ترارزه حاليا تعيش هدوءا مرضيا.
أعطانا الوالي رسائل التوصيات. في إحداها كتب:
"الحمد لله.. من والي السنغال إلى صديقه وحليفه أحمد سالم زعيم الترارزه.. سلام تام.. إن هدف هذه الرسالة هو أن أوصيك خيرا بالسيد دوني المكلف بمهمة علمية وتجارية في الصحراء.. وأطلب منك أن تسهل مهمته بكل الوسائل المتاحة لك، وأن توفر له جمالا وأغذية بالسعر المحدد حسب المواثيق الموقعة بيننا. وأخيرا أرجو أن تمنحه رسائل إلى حلفائك تستوصيهم به خيرا.. السيد دوني سيكون مرفوقا خلال مهمته بالسيد بونيفال الذي بدوره أستوصيك به خيرا.. أعرف أنه بإمكاني هذه المرة، كجميع سابقاتها، أن أعَـوّل عليك".
ثم أعطانا رسالة توصية من أمير لبراكنه، جاء فيها:
"من طرف الملك ابن الملك أحمدو ولد سيد اعلي ولد احمدو ولد سيد اعلي، إلى أحمد ولد سيد أحمد ولد عيده، وإلى الشيخ سعد بوه، وإلى الشيخ سيديا ولد الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا.. سلام تام.. أخبركم جميعا أن الفرنسيين أصدقائي وأصدقاءكم، وكلما التقيتم بفرنسي في أرضكم إفعلوا كل ما في وسعكم لمساعدته وإكرامه وتأمينه".
ثم أعطاني رسالة توصية أخرى، جاء فيها:
"الحمد لله خالق السماوات والأرض.. من بابه ولد حمدي إلى كل من نظر في هذه الرسالة، وإلى كل القبائل العربية.. سلام تام.. إخوتي لعلب، أولاد محمد، أهل أعمر، أهل سدوم، انجخوخه، الكحل، أولاد المختار، لمكاسير، اشريببه، لكنيديه، لمزازكه، لبيدات، الرحاحله، أهل لكويري، أهل محم، أولاد عمران، آرويجات، أولاد البوعليّه، أولاد اللب... أوصيكم خيرا بحامل هذه الرسالة وأطلب منكم مساعدته عند الحاجة.. وإذا كانت علاقاتي القديمة بكم ما تزال كما هي، أرجو أن تساعدوه وتضمنوا سلامته".
بدأت الرحلة كما لو أنها فصول من قصة خيالية.. طيات من التلال على بعد 40 كلم شمال سان لويس، على حافة البحر حيث انتصبت خيمة كبيرة.. حول الخيمة امتزجت الأشياء وتراكمت على شكل صومعة: حُـزَم، أكياس، عفش من القماش، قطن، سكر، تبغ، خرز، جمال جاثمة كالتماثيل، وعلى مقربة من كل هذا الخليط مرجل تلسعه ألسنة لهب نار من الخشب المشتعل. هل يتعلق الأمر بصيادي الفراء؟ أم يتعلق بلصوص؟.. لا هؤلاء ولا أولئك. إنه خادمكم ومرافقوه وجماله وأغراضه.
قائد البعثة جالس على كيس يدخن من غليونه، ورفيقه جالس على كيس آخر يدخن من غليونه، يغالب كل منهما النعاس. وعلى بعد أربع خطوات منهما يضطجع بيظاني على حصير.. هذا البيظاني، الذي يعتبر أهم شخص في القافلة، هو الدليل والمترجم المُحَلــّــف محمْدْ أعمر.
أقول له:
·                قف محمد أعمر. سوف نرسم لك صورة.
بدون عناد، يقف محمد أعمر. قامته جيدة ومتوسطة، نحيف، جاف..  ككل عربي بالدم، شعره أسود طويل كأذناب الخيل.. إنه غابة عذراء لم تـُـكتشف أبدا.. ومن المؤكد أن محمد أعمر مسلم، لكنه لا يجد حرجا في شرب الخمر سرا أو في الخفاء. ينحدر محمد أعمر من سلالة نبيلة. لقد سجله أبوه في مدرسة سان الويس، وهو يعرف القراءة ويعرف الكتابة، أو يعرفهما نسبيا. نراه تارة يغني مقاطع قديمة لجنود فرنسيين. لا يجهل محمد أي شيء عن حضارتنا، فهو يستخدم الفرشاة والملعقة وينظف فمه على طريقتنا، بالإضافة إلى أنه يـُـتـْـبع كل طلباته (والله يعلم كم هي كثيرة) بعبارة "من فضلك" المتمدنة (S’il te plaît). كما يقول تارة "عفوا" (Pardon)، وعندما يمر بجانبك في الصباح يسألك عن صحتك، ويعرف كيف يُقـَـطــّـب جبينه بحزن عندما تقول له بأنك لم تنم نوما مريحا، أو كيف يبدو فرحا عندما تقول له بأنك نمت نوما مريحا.. خلال حديثه معنا نلاحظ أن محمد أعمر يكثر من التأنيث بدل التذكير والتذكير بدل التأنيث، فعلى مدى ستة أشهر لا أتذكر أنني سمعت منه غير "هذه مدفعي" و"هذا داري". لكن لا ضير، فهذا لم يمنع محمد أعمر من أن يكون مترجما رائعا، كما أنه شاعر، وأكثر من ذلك شاب نزيه. لقد عرفه كل الولاة الفرنسيين في السنغال منذ عهد فيديرب، وكلهم شهدوا له، في إفاداتهم، بالإخلاص والقدرة على امتلاك المبادرة.. وهل بإمكاني أن آخذ عليه جشعه وطمعه؟ فمن منا ليست له نواقصه الصغيرة؟
لنحول أنظارنا الآن نحو النار الموقدة تحت المرجل، فالرجل الأسود الجالس هناك على كوعيه، مشغول بلحم المعزاة والسكين، هو إدريسا صار.. إنه أهم شخص بعد محمد أعمر.. إنه طباخ البعثة، صاحب الدعابات الكثيرة التي كثيرا ما يروح ضحيتها أصحابه. وهو متمرس على كيفية إغضاب محمد أعمر عندما يشاء. فيكون علينا - بعض الأحيان- أن نتدخل لحماية كرامة مترجمنا. تارة نوبخه وتارة نعاقبه. عندما نعاقبه على المداعبات التي تغضب محمد أعمر، ينسحب إلى زاوية من الخيمة، وبعد هنيهة ينفجر من الضحك ناظرا إلى محمد أعمر..  كأنه يتصور كيف سيغضبه غدا.
أما العفريت، صاحب الشعر المجعد، النائم على الأرض تحت لفح الشمس، فهو الحمّال محمدو ديالو المبتسم دوما، الثرثار دوما، والكسول دوما.. إنه الصديق الحميم لإدريسا صار. ثم يأتي عمر صمبه، وهو أفضل تكروري في العالم، لكن الصبر يعتبر أقل قـيّمه شأنا، فعندما لا يروق له الأمر يضرب برجله الأرض ويضم كفيه ويكرر: Goddam أي "اللعنة" بالانكليزية. لماذا هذه المفردة بدل Doul الولفية؟ ولم لا Merde الفرنسية؟ هذا السر لم أستطع كشفه أبدا. المهم أن عمر صمبه بحار سابق، وهو يفتخر بأنه خدم خمس سنوات في أسطول بحري. ولا يتحرج عن سرقة بعض مؤننا من البسكويت فيهديها باعتزاز لنساء البيظان.. إنه مكلف بترتيب الأغراض والحمل وبعض الأشغال.
وفي آخر القائمة يأتي حارسنا عبد الله، ذلك البيظاني ذو الشعر غير المهذب جيدا، أو الذي لم يهذب أبدا. إنه مهموم بإصلاح الرواحل وترتيب الأغراض. لا يعرف عبد الله أية مفردة من اللغة الفرنسية، لكنه يكمل ذلك النقص المأسوف له بجديته واستعداده التام للقيام بما أوكل إليه من مهام.. يبلغ عبد الله 35 سنة ولم يستحم في عمره أبدا منذ أن ولدته أمه. لقد تراكمت الأوساخ على جلده حتى شكلت درعا فوقه. يَعتبر رفيقي بونيفال أن هذا الدرع قادر على أن يقي عبد الله من الرصاص. فكرت مرة في أن أذهب معي بعبد الله إلى باريس لأقدمه لكلية الطب كي أفند النظرية التي تقول بأن النظافة هي أفضل وسيلة للصحة.
إن أكثر ما يحرج مترجمنا محمد أعمر هو أن يأكل في صحن واحد مع الزنوج المرافقين لنا، فالعرب النبلاء يترفعون عن مؤاكلة هؤلاء. وقد تعهدت له بأنني سأدعوه مرة ليأكل معنا (أنا ورفيقي الفرنسي). فقال لي:
·                هل سنطبخ وجبتنا مع الدهن أم مع الشحم؟
·                مع الشحم، طبعا.
·                أي شحم؟
·                شحم الخنزير.
·                شحم الخنزير؟.. إذن أنا لا يمكن الأكل معك أنت.. لكن لماذا البيضاء تصب دائما دهن الخنزير على الكسكس؟
(يعني بالبيضاء البيض أي الأوربيين).
قلت له:
·                أخي محمد أعمر، لم نكن نعتقد أن دينك يمنعك من ذلك..
قال:
·                لو كنت أنا متأكدا لا يراني البيظان، أنا آكل الخنزير..
·                ستأكل الخنزير مثل البيض؟
·                أنا بيضاء، جدي بيضاء، أبي بيضاء، زوجي بيضاء، كل الناس بيضاء في أسرتي. وأنا لست مجنونا، تعرف جيدا أنني لست مجنونا، أنا.
·                بالتأكيد، محمد أعمر.
·                الترارزه كلهم مجانين. لم يفهموا النبي.. النبي قال: "حرام أن تأكلوا خنازير البيظان"، لكنه لم يقل "حرام عليكم تأكلوا خنازير البيض". (يعني الأوربيين).
قال بونيفال:
·                لو أن كل سكان الصحراء نظروا إلى إسلامهم بطريقة محمد أعمر لكنا قد أنهينا مهة احتلالهم منذ فترة، وكنا قد شيّدنا طريقا رابطا بين الصحاري، وكنا قد أضأنا تمبكتو بالكهرباء.
وُضِعت الأغراض على الجمال، بعضها يميل يمينا وبعضها يميل يسارا، وهي تكاد تسقط.
قال قائد القافلة محمد أعمر:
·                تعرف جيدا أن السود لا تعرف العمل، لا تعرف شيء إلا يطحنون الذرة ويأكلون الكسكس.. تعالوا، عمر، محمدو ديالو، وهذا الطباخ الشرسة التي تنظرني، هذا، كما تعرف، ليس من حقه.. يجب أن تجعلوا كل الأغراض على السنام الكبير للجمال.
رد عليه إدريسا صار بقوله:
·                أنا عرفت تعلمت شيَّ لحم الضأن والدجاج والأرانب، وأعرف كيف أقلي البيض. أنا لم عرفت ترويض الخيل والجمل..
قال محمد أعمر، غاضبا:
·                هل ترى هذا الأسود السيئة، دائما يناهضني، قل له أن يحفظني بسلام..
قلت لإدريس بأنني أنذره من أن يتكلم لقائده بهذه الطريقة.
ربط عبد الله زمام كل جمل في مؤخرة الجمل الآخر، وأعطيت الأمر بالرحيل.
أنخنا عند غدير ونصبنا الخيمة للمبيت. كان البعوض يلسع بشكل رهيب وكان زئير الأسود مخيفا. لم يتمكن أي منا من النوم باستثناء عبد الله المحظوظ. كنا نتجمع حول نار أوقدناها لتخويف الأسود وطرد البعوض. وكان من حظنا أن محمدو ديالو حكواتي متألق يساعدنا في الصبر على محنتنا بحبل غير منقطع من الكلام. طلبت من محمدو ديالو أن يحكي لنا قصة، فحكى أربعا، من بينها واحدة كانت ذات علاقة بشؤون الساعة. إنها تفاصيل أسباب وجود البعوض على الأرض. قال محمدو ديالو:
"قبل زمن بعيد، زمن بعيد جدا، كان للسود الولوف ملك. الملك هذا الكبير يدعى عبدولاي ديوب. كان قويا، أقوى من كل رجل. لا يخاف التماسيح، لا يخاف الأفاعي، لا يخاف الأسود. عندما يرى الأسد، هو يأخذ الأسد بين ذراعيه، يقتله جدا، يلقيه في النهر. عبدولاي لم يكن شرسا، لكنه قوي جدا وأكسبته قوته المهابة. ذات مرة قال عبدولاي: أنا لا أخاف أي شيء مما خلقه الرب. عندما سمعه الرب، نزل إلى أرض الولوف في زي شيخ ديني عجوز، ثيابه ممزقة ويتوكأ على عصا. الرب دخل كوخ الملك عبدولاي. قال له: السلام عليك، عبدولاي جوب. أجابه: عليكم والسلام. قال له الرب: أنا شيخ كهل، كثير كثير تعبان، أعرف أنك أنت عبدولاي رجل قوي. هل تحمل لي حقيبتي حتى بيوت هناك؟.. حمل عبدولاي الحقيبة لكنه لا يستطيع الحركة فهي ثقيلة، أثقل من كل شيء. قال له الرب: أنا الرب جئت لأسألك لماذا أنت تقول بأنك لا تخاف أي شيء صنعه الرب؟.. قال له عبدولاي: السلام عليكم، أنا لم أقل إنني لا أخاف الرب، أنا قلت إنني لا أخاف أي شيء صنعه الرب. الرب غضب. فأرسل الرعد والبرق والرياح. لكن عبدولاي لم يخف. فأرسل الرب ثلاثة أسود تأكل عبدولاي، فقتلها عبدولاي. فأرسل الرب أفعى كبير تخرج النار من فمها، فأخرج عبدولاي سكينا وقطع رأسها. أرسل الرب ثلاثة رجال كلهم ضخم، أضخم من إدريس على عمر وعمر على محمد أعمر، فقتلهم عبدولاي. غضب الرب غضبا شديدا وأرسل الكثير من الحشرات الصغيرة، لها أجنحة، فكان عبدولاي يضربها برجليه وبيديه وهي تلسعه من هنا وهناك حتى غضب عبدولاي واضطجع على الأرض، فانهالت عليه تلسعه كثير كثير. فلما أصبح وجهه عليه الكثير من الدم، طلب من الرب أن يسامحه. فطلع الرب إلى السماء، لكن بقيت هذه الحشرات على الأرض. إذن بسبب الملك عبدولاي يوجد الآن البعوض في الأرض".
تلكم الحلقة الأولى من رحلة غاستون... و سنواصل معكم في التدوينة القادمة الحلقة الثانية منها.. بإذن الله تعالى...


ليست هناك تعليقات: