2 أكتوبر 2012

موريتانيا... السياسات الزراعية من الفاشل إلى القاتل... بقلم المزارع: عبد الله بن الشيخ سيديا...

بدأت موريتانيا كمثيلاتها من الدول المطلة على نهر السنغال الاستفادة من الزراعة المروية بعد السدود( مانانتالي و دياما) التي أدت إلى التحكم في منسوب المياه في النهر و الروافد المنبثقة منه, و في هذا الإطار بدأت الدولة و من خلال قطاع التنمية الريفية و البيئة بخلق الأطر التنظيمية و السياسات التنفيذية الكفيلة بالنهوض بهذه المهنة كصناعة و انطلقت من معطيات ثلاث..
1 رصد و تبني الأفكار المدرة للتمويل الخارجي
2 أحادية الحيازة العقارية من طرف الدولة
3 توجيه التنفيذ ليتناغم مع معطيات الحكامة السياسية..
المعطاة الأولى: فمن خلال وضعيتنا كبلد فقير من دول العالم  الثالث العربي الإفريقي نحضر دائما مؤتمرات و قمم المنظومة الدولية المهتمة بالغذاء و السلم في العالم مثلنا, ومن خلال توصيات تلك القمم نغير أنفسنا لنتلاءم مع التطلعات العالمية, و غالبا تجرى الدراسات لجدوائية السياسات دون فكرتنا و تمويلنا و خبرتنا, و يتم تطبيقها بمعيار التحايل عليها, للاستفادة من السيولة النقدية و الحراك الاقتصادي الذي تجره. و في النهاية التحايل عليها بطرقنا الخارقة في ترجمة اجتهادية لمسطرة الإجراءات و صرفها في المعيار السياسي الأهلي الحاكم, و غالبا ما كانت التعيينات على هذه السياسات تتم بانتقائية كبيرة تتحد في عامل واحد هو إقصاء الطبقة المستهدفة بروح التوجه العالمي الذي هو أصل التمويل. فعلى سبيل المثال لا الحصر: برنامج التنمية المندمجة للزراعة المروية في موريتانيا, أعاد تأهيل حوالي 10 آلاف هكتار بغلاف مالي ناهز ال30 مليار طيلة السنوات الماضية قبل موته السريري مع الوزارة الحالية.. كلها لتعاونيات.. و لكن....؟؟؟
تعاونيات أنشئت بالمناسبة و كان أصحابها خصوصيين رائدين في التنقيص من دور التعاونيات و زحامها في الموارد, و الأدهى و الأظلم أنهم, أي أصحاب المزارع هم من درس من خلال مكاتب دراساتهم و نفذ من خلال شركاتهم الصورية, و لكن يجب ألا نذهب بعيدا, فلم تؤهل المزارع حتى اليوم!!! دون حتى أبسط سؤال عن ذلك.. و الأمثلة كثيرة في عبر أخرى. و العبرة هنا هي الاستفادة الورقية من الدعم التحفيزي للتعاونيات الذي يخوله ضعفها, من خلال تحمل المشروع في مسطرته نسبة 80% من تكاليف التأهيل مجانا, أي حوالي مليوني أوقية للهكتار الواحد.
المعطاة الثانية: من الطبيعي أن الدولة تملك السيادة على ترابها, و لكن هذه المسلمة ليست موجهة للداخل بقدرما هي موجهة للخارج و هذا هو الاساس.
و في الإطار العقاري سنت الدولة القانون الشهير 83 المعروف بالقانون العقاري الذي سن في ظروف هي نفسها موضع استفهامات كبيرة من الناحية الإجرائية, لأنها و ببساطة كانت تحت حكم استثنائي, إلا أنه رغم ذلك صدر حاملا في طياته تناقضات عجيبة.
_ تجاهل عن قصد التاريخ التشريعي للبلاد و المجتمع و حتى المسطرة القانونية و الوضعية التشريعية في بعض الأحيان إن لم يكن في أغلبها.. و ذلك ما لم يجد له المفسرون إلا تفسيرا واحدا و هو أن الدولة يومها ممثلة في رئيس الدولة آنذاك محمد خونه ولد هيداله سبقت القانون بإصدار مرسوم رئاسي منطوق من طرفه أثناء زيارة لترارزه بإعطاء أحد المزارعين الأرض عقاريا.. ليتضح بعد ذلك أن الأرض نفسها مملوكة بجميع الوثائق المتاحة منذ وجود الإنسان في هذه الأرض التي ستعرف بعد ذلك بموريتانيا من طرف الأمير بياده.
_ عدم اعتراف القانون بالملكية التقليدية للأرض و إجبارية التنازل من طرف ملاكها التقليديين عن دعواهم ليتم تشريعها للمالك الجديد.
هذه المادة تعرف عند العارفين بالشأن بمادة البنك الدولي و المانحين و لكن تطبيقها يتم بانحياز ردعي من طرف الإدارة المحلية ممثلة النظام لصالح الملاك الجدد. و هذا التناقض وجد بعد التعديل الأول للقانون في عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع و كانت ثمرته تمويل مشروع الاستصلاح العقاري.. و بوقاحة كان القائمون على هذا المشروع و على القطاع بصفة عامة, و خاصة المباشرون منهم, من البلاط الجهوي و الاجتماعي للحاكم لضمان انسيابية تنفيذ الأجندة و يرى الفقهاء السياسيون أن هذه الأجندة كانت من الأسباب المباشرة للأحداث المؤلمة سنة 1989  1990 .  
  و بعد المنعطف الثاني في حكم الرئيس معاوية و بضغط من الممولين و تحت وطأة الادعاءات الحدودية من السنغال شمال النهر, بدأ البحث عن وثائق و دلائل تاريخية تثبت موريتانية الضفة, و كانت أسرة أهل الشيخ سيديا من بين من يملكون الأدلة. و تمثل دليلهم في السند العقاري الموقع سنة 1929 في شهر يونيو في إطار قانون العقارات الفرنسي في ثوبه الجديد آنذاك المعدل سنة 1923 و يحمل هذا السند من الوثائق الإدارية و الإثباتات الحدودية المرسمة للخارطة الوطنية بحدودها الطبيعية مع الجارة السنغال و المتمثلة في النهر كما هو منصوص.
حينها قبلت موريتانيا بموريتانية هذه الجهة و أهلها و كانت مفاوضات باريس التي من خلاله أيضا انطلقت سياسة جديدة للقطاع و آلية تمويل جديدة هي القرض الزراعي في ثوبه التعاوني المفروض من طرف الممولين و بعد مؤتمره الأول, تمت مصادرته و تاميمه إلى اليوم.. قتلته و بشكل ظالم سياسة الوزارة الحالية.
المعطاة الثالثة: في هذه المعطاة كسابقاتها يوجه التنفيذ من خلال الأشخاص القائمين عليه و المؤسسات المسؤولة عنه لخدمة سياسة الحاكم المادية أولا متجلية في إغناء بلاطه الاجتماعي الذي كان حتى جزءا من التفكير في استجلاب التمويلات بمقاسات قابلة و بسلاسة للتحويل إلى ملكه الخاص.. و أقر لذلك احتكار الجانب النقابي لتفادي خروج الامور عن السيطرة و وجه إرادة الحاكم التي هي في الأصل موجودة لهذا الغرض, و بوقاحة أمم هؤلاء الزبانية المؤسسات ذات راس المال الوطني و الطابع الاستراتيجي, التي لا تزال هي الاخرى عصية على الاجتهاد مثل العامة للخدمات الزراعية و برنامج الدعم الياباني.. و أعاد كذلك هيكلة تقسيم المهام في ظاهرة خطيرة على المجتمات الإثنية مثلنا, فنجم عن هذا وجود نوعين من المزارعين في الضفة: نوع من الزنوج الموريتانيين في اعالي النهر أساسا موكلين إلى صونادير مقزمة بذلك دورها لينحسر في زاوية و جنس واحد من هذا الوطن و تخصصت إلى حد ما في الممولين العرب.
و نوع مما يسمى بالمزارعين يشكل جميع الهيئات المتبقية و يحمل في طياته طبقات ثلاث مثيرة للريبة على مصير اللحمة الوطنية و التي وجد ليكون محفزا عليها هذا القطاع الاستراتيجي بكل المقاييس.
طبقة التعاونيات( القروية): و تتشكل من مجموعة الأرقاء السابقين في درجة من الإهمال المقيت لئنون تحت وطأة الديون الزائدة و مناخ الانتاج المختل من جهة و رحمة تجار الخدمات و لقمة العيش من جهة أخرى, و يشهدون نزيفا حادا من الهجرة و الإحباط, لا تنفعه مهدئات الوزير الحالي من خلال الأسمدة المشروطة بالمستحيل, الذي هو سداد الديون المتراكمة للقرض الزراعي.
و مع أنهم ضحايا السياسات السابقة و تراكمات التعسف التاريخي و الواقع المؤلم أصبحوا بيئة ملائمة لانتشار الامراض و الظواهر التطرفية الخطيرة على الكينونة الوطنية.
طبقة المزارعين: هؤلاء هم النجاح الوحيد للسياسات, رغم أن الظروف العامة للزراعة كصناعة لما تتوفر بعد, إلا أنهم و بطبيعة كل واحد منهم على حدة, و بتفكيرهم الجماعي و قناعتهم بهذا القطاع.. استطاعوا البقاء في دائرة الانتاج مستعينين في أغلب الاحيان بنشاط ثانوي يزن الاختلالات الناجمة عن السياسة, و أصبح لهم ارتباط عضوي بهذه البقعة من الوطن من الناحية الاقتصادية و السياسية و حتى الاجتماعية.. و شهدت هذه الطبقة زيادة نوعية في السنوات الأخيرة بوجود فئة المؤجرين.. و يرجع المحللون الاقتصاديون وجود هذه الظاهرة إلى رفض الجمود و قلة فرص العمل و ربحية القطاع في بعض الأحيان من خلال ارتفاع الأسعار و انحسار الآفاق.
و مع الأسف, فهذه الطبقة رغم حيويتها و استعدادها و استمرار انتاجيتها.. يشكل إقصاؤها و قتلها المحور الرئيس لسياسة الوزير الحالي في إطار عزمه الواضح على قتل القطاع مؤسسات و مزارعين تاركا بذلك كارثة حقيقية أضعف قراءاتها انعدام الحس الوطني.
طبقة (رجال الأعمال): هؤلاء قليلو العدد شاسعو المساحات وجدوا مع معاوية و ذهبوا معه.. أتوا على الأخضر و اليابس, ينحدرون من حيز جهوي واحد تقريبا و من خلفية واحدة و من بلاط سياسي واحد.. لم يكونوا أبدا منتجين بقدرما ما يملكون من الأراضي الشاسعة و لا قدر ما يحصلون عليه من التسهيلات التي تتجاوز القطاع أحيانا إلى قطاعات أخرى في إطار ما كان يعرف اصطلاحا بريع الولاء من خلال مواكبة التوجهات.. و لم يبق منهم اليوم إلا ريع إيجار الأرض منتحلين بذلك شخصيات أورستقراطية.. سبحان الله! جاؤوا على أنقاضها رافضين لها هذا الدور في دعاياتهم( دسنه)... و يبدو أن الدولة تتوجه الآن لتحل محلاتهم بحملة الشهادات و هذه فكرة رائعة, لولا وضع الوزير الحالي لها في حيز آخر يفتح المجال على خطوط حمراء من الطعن في السلم الأهلي من خلال نقمته المعروف بها ضد هذه الجهة من الوطن, التي أدت به إلى إقصائهم من التجربة الأولى في مزرعة امبورييه إذ يمثل المحليون فيها نسبة طفيفة من باب المجاملة سدا للذريعة, رغم تراكمات منهجية الإقصاء للعقود السابقة و سبق التمدرس الذي كان إلى حد قريب موضع جريمة وطنية بكل المقاييس هو الآخر.
 و لضمان ولوج الأهداف أحاط نفسه بطواقم طهرت من العقبات النوعية و روعيت فيها معايير غريبة هي قصر التجربة و ضحالة الكفاءة المهنية و انعدام الحس الوطني الشامل و الاستعداد اللحظي لتنفيذ الأوامر و المؤامرات و خلق جو إعلاني يشعر الرأي العام بنوع من الطمأنينة الزائفة و يضفي على المزارعين صبغة اللصوص ليتسنى له تنفيذ أجندته الإنتقائية القاتلة, مغرقا الرئيس بتقارير كاذبة في الكم و الكيف و الزمان و المكان مستحوذا بذلك على ثقته التامة جاعلا من تصرفاته الخطيرة على الاقتصاد و المجتمع و حتى البلد خيارات وطنية سامية.
و على كل حال فلقد كانت السياسات السابقة فاشلة بالمنظار الاستراتيجي إلا أنها أنجبت الزراعة كقطاع و أدواته كبنى تحتية إنتاجية و مزارعيه كمنتجين... فأين الألف مزارع منتج؟ لم يستطع الوزير الحالي يوما من الأيام أن يخوض حملة زراعية واحدة بمئتين منهم. و الدالة العددية و الإنتاجية في سقوط حر دفعته حملة الصيف المنصرمة التي لم تجد الأسمدة و لا الحماية و على المجهودات الذاتية للمزارعين... و حتى أنها لم تحصد لأسباب هو أدرى بها.. ناهيك عن تسويقها الذي هو حتى اليوم معضة الضفة.. و الأسعار المعروضة فيه رحمة من المضاربين هي في حدود ال 50 أوقية أي نصف السعر.. و انعكس ذلك بجلاء على حملة الخريف الحالية, حيث كانت في مجملها استمرارا لنبتة الصيف المنهكة أصلا, لتدخل دورة إنتاج جديدة.. و هذا لعمري عين الفساد.. في ما أصبح يعرف بصفر تهيئة, تفاديا للمصطلح المعروف عند المزارعين( إعادة نمو) الذي غالبا ما تكون إنتاجيته طفيفة جدا, مدشنا بذلك صورة من صور القتل الجماعي للمزارع.
و انطلاقا مما سبق فيمكن الحكم على السياسات السابقة بأنها فاشلة من المنظار السياسي و الاجتماعي و الأخلاقي و حتى المحاسبي في أغلب الأحيان.. إلا أنها كانت دون ذلك في المنظار الاقتصادي لدرجة تصل حد النجاح.. فقد نجحت في خلق قرابة نصف فرص العمل في الوطن, إذ توفر اليوم وهي على فراش الموت, قرابة 100 ألف فرصة عمل في بلد تنهكه البطالة, و تساهم بحوالي 15% من الناتج القومي الخام, و تغطي قرابة 30% من الحاجة الوطنية في مادة الأرز, هذا حسب المعطيات الرسمية, أما حسب معطياتنا, نحن المزارعين, فنرى أنها تجاوزت ذلك بخلق:
_ مزارعين يمتلكون التمكن الفني للإنتاج و يملكون قرابة 40 ألف هكتار مستصلحة و عددا كبيرا من الآليات تقدر بأضعاف الغلاف المالي المرصود لها سابقا.
_ الرفع من مستوى الخدمات و تكوين و إسعاف و تثقيف حوالي 30% من السكان الموجودين في الضفة بشكل عام.
_ خلق قطاعات تحتية هي اليوم موجودة من مصانع للأعلاف و الألبان و التقشير, مربوطة الاستمرار بإنتاجيتنا.. فمثلا لم تقدم الدولة منذ وجودنا إغاثات غذائية عاجلة في هذه المنطقة من الوطن, و كذلك انعدمت الولادة خارج النقاط الصحية رغم وعورة الطرق و انعدام النقل في أغلب الأحيان.
_ خلق المناخ المواتي لوجود العشرات من المؤسسات الربحية و الخدمية تدخل هي الأخرى ضمن دائرة التقويم الاقتصادي..
و على عيوبها الجمة و شمولية فشلها أنجبت هذه السياسات رزمة من البنى التحتية المؤسسية ضرورية للقطاع, كانت بأدوارها الناقصة و الموجهة و سيئة التسيير موجودة, فأين هي اليوم؟ و ما حالها؟ و ما مصادرها و أدوارها؟ إنها و باختصار شديد كانت فاشلة و ماتت على يد الوزير الحالي للتنمية الريفية.