5 أبريل 2014

مذكرات الرحالة السكَير.....( تابع)

...ها نحن عند أواتيل منذ يومين. إنها حافة أضاة متقوسة. نرى نيرانا مبعثرة تناهز الأربعين. نحن الآن ضيوف على حي المترجم محمد أعمر. وبكل فخر، نراه يقدم لنا أسرته داخل خيمة كبيرة من الوبر تليق بكل نبيل منحدر من أكابر البيظان. داخل خيمة محمد أعمر يوجد حصير عليه وسادتان من الجلود وصندوق خشبي بمثابة خزينة الأسرة. وعلى جانبه توجد خنشات من الأرز وأخرى من الدخن وقضبان من السكر وأوعية مليئة بالقديد.

يعتمد البيظان في تحصيل ثروتهم على ثلاثة مصادر:

التقاط العلك وزراعة النخيل،

التنمية الحيوانية،

سواعد العبيد.

كان بودي أن أقدم لكم سعادُ: الزوجة الشرعية الأولى لمحمد أعمر أو فاطمة زوجته الشرعية الثانية. لكن ذلك لم يعد ممكنا. لقد انتشر خبر مجيئنا في الحي وأصبح كل شخص يريد أن يرانا. تم اجتياح خيمتنا من قبل جموع من المُـقــْــمِـلين المتسولين من كل نوع ومن كل جنس. إنهم يربضون من حوالينا، أمامنا، وراءنا، عن يميننا، عن شمالنا. ينظرون إلينا بتمعن. إنهم أناس قذرون، مثيرون للإشمئزاز بشعرهم المتمرد دوما، ولحاهم المحلوقة على طريقة الجن: شعرة هنا وشعرة هناك. مع طبقة الوسخ التي تغطي أجسامهم النجسة. ينظرون إلينا ويضحكون مبدين أسنانا بيضاء هي كل ما تملكه شخوصهم النتنة من فاخر النظافة. وبدورنا ننظر إليهم. فهل تعلمون أن من بين هؤلاء المقرفين أشخاص لهم حظ من الجمال؟ حجم متوسط، متماسك جدا، أعضاء مستقيمة، أيد وأرجل كالتماثيل العتيقة، شفاه مرسومة بسلاسة، أنف أشم، عيون سوداء، قاسية جدا، يبدو أنها لا تعرف الرحمة. وبثيابهم الرثة المحيطة بجذوعهم، وبأرجلهم غير المنتعلة، وأفخاذهم العارية، يذكـّـرون بكهنة الإنجيل كما تـَـصَـوّرهم الرسام كيستانف دوري. إننا نراهم كما كانوا دائما قبل أربعين قرنا: رُحّـل كما هم اليوم، تائهون حسب مشيئة قطعانهم. كم نحن مسرورون برؤيتهم واستخدام أقلام الرصاص لوضع رسوم لهم في وضعيات غير مبرمجة.

المرأة في هذا المجتمع ربما تكون أقذر من الرجل، ومن المحتمل جدا أنها لم تعرف في حياتها أهمية استخدام الماء. مع ذلك فهي جميلة رغم القـُـمّـل. تنحو إلى القصر، بدينة، وجهها مدور، عيناها جاحظتان، شعرها سميك، أسنانها لماعة، لكنها سرعان ما تصاب بالسمنة؛ ففي سنتها الخامسة والعشرين تحيل إلى نصب تذكاري مذهل يحار الفلاسفة في قدرة الجمل على حمله.

المرأة في الصحراء مملة أكثر من أي شيء، تستغرق الانتباه أكثر من كل شيء، لا تطاق أكثر من كل شيء. أما التودد لها فيعتبر دوما لعبة سُـذج. الرجل يمكن في بعض الأحيان أن يترككم بهدوء، أما المرأة فلا. إنها أمامكم دائما وتنظركم دائما، تتحرك، تعاند، تبتسم، تمد يدها مكررة إلى الأبد: "أعطني، أعطني".

يصرخ رفيقي بونيفال:

إنهن أكثر عددا من حصى فلاتهم. فالحذر، الحذر، إنهن طابور الآن.

إحداهن تــُـظهر جيدها: إنها تريد قلادة. الأخرى تسفر عن شعر رأسها: تريد مشطا. ثالثة تمرر يدها مرات عديدة على منخريها: لعلها تريد عطرا. وتلك تفرك وجهها بقوة: إنها تطلب صابونة (هذه على الأقل تطلب هدية مفيدة)... ثم تنفجر طلبات النساء.. وابلا بعد وابل: تطلبن آلات تدخين، خيوطا، إبرا، حريرا، أوراق تبغ، شفرات حلاقة، سكرا إلخ إلخ.

لم ينته الأمر، لأن للأطفال المفزعين دورهم في الإزعاج، فهم يطلبوم السكاكين والأساور. حقا، إن في الأمر ما يدعو للانهيار العصبي.

قبل غروب الشمس خرجتُ من حي أواتيل بحثا عن مادة تشبه عرق الحديد وقع عليها بصري أمس. أمضيت وقتا في البحث فلم أعثر لها على خبر، ثم أرخى الظلام أجنحته، وكنت قد ابتعدت. عندما حاولت الرجوع اكتشفت أنني ضللت الطريق وأنني أتيه على غير هدى. بعد أن أعياني التعب استلقيت على الأرض بين النوم والموت. كانت الذئاب والظباع تمر بجانبي وكان العشب يحجبني عن هذه الحيوانات المفترسة. لما اتضحت خيوط النهار رأيت محمد أعمر ورفيقي بونيفال الذيْن بحثا عني 8 ساعات متتالية. قالا لي بأن الأرض مخيفة، وأنه كان بالإمكان اغتيالي، كما أنهما وجدا أسدا ولبؤة كانا يتتبعان أثري.  عدنا إلى خيمتنا في أواتيل.. شربنا الشاي احتفالا بمقدمي، قال محمدو جالو في لغة عليلة تستحيل ترجمتها:

آه، ليس النوم جيد وحدك التراب.

قلت:

دي ديت (لا، أبدا، بالولفية).

قال محمد أعمر:

لو القائد مات، لربطت أنا حجرا كبيرة على رأسي وأغرقت نفسي في البحر.

في الأمر مبالغة طبعا، أما ما لا مراء فيه فهو أن هذا المترجم المخمور كان قلقا جدا خلال غيابي. وقال لي رفيقي أنه كان يكرر خلال عمليات البحث:

إذا هو فــُـقد، ماذا تقول السيد الوالي؟

فيقول له بونيفال:

والوزير؟ ماذا سيقول الوزير؟

تعتقد الوزير يضعني أنا في السجن؟

طبعا،

لا إله إلا الله،

لعلها المرة الأولى التي نجد فيها مسلما يدعو ربه ونبيه أن يحفظ حياة كلب كافر.

سيكون مسارنا على هذا النحو، إن لم يكن ثمة تغيير:

سنتوجه إلى الشمال الشرقي، لنصل إلى بوزبره حيث يوجد الزعيم أحمد سالم والشيخ الروحي بابه ولد حمدي.. نمضي مقاما في بوزبره، نأخذ من الزعيمين الأمان لمرورنا بأرض الترارزه. ثم نرحل ناحية بورتانديك (ميناء هدي) على الشاطئ. ثم نتوغل في الصحراء نحو تارد وتفلي وآكنيتير وتازيازت والسهول الواسعة لأولاد الدليم، فتيرس حتى آدرار سطف. من هناك نأخذ معنا حامية من أولاد بسبع لنصل، أولا، إلى المحطات التجارية الإسبانية في الساقيه الحمراء ووادي الذهب على شاطئ البحر، ثم إلى الشمال لنصل مجموعة تكنه بتيندوف (كان كامي دول قد زارها سابقا)، ثم رأس جيبي في جنوب المغرب. وتنتهي الرحلة.

قلت: "إذن لنبدأ مسيرنا..

قال صديقي بونيفال:

لكن، أين محمد أعمر؟..

ذهب بونيفال بحثا عن محمد أعمر. وبعد عشر دقائق عاد إلي ضاحكا وهو يقول:

تعال أريك..

أي عرض مسرحي تخبئ لي؟

فرقة أواتيل تقوم بعرض توديعي درامي.

نرى محمد أعمر تحت الخيمة. عند قمديه سعاد غارقة في الدموع. وحوله حرسه القديم متحلقون. يحاول بطل القصة التخلص من ذراعين تضمانه بقوة.

يقول لنا محمد أعمر:

تروني زوجتي هذا، قريبة مني، كثير حزينة. لا تريد أذهب أنا. تعتقد أولاد الدليم يقتلوننا جميعا.

ثم تبدأ سعادُ تتنهد. وهنيهة ينتهي العرض. يضع محمد أعمر قماشا جميلا من النيله، ويضع نعالا جميلة  من الجلد الأحمر ويرمي بمسدسه على عاتقه، ويضرب جمله ليصبح في لمح البصر في مقدمة القافلة.

فجأة إذا بقافلة متجهة إلى فوتا. ووفق مبدأ "من يريد السلام يتهيأ للحرب" نزلنا من فوق جمالنا ووضعنا الأصابع على الأزندة، ونحن ننتظر..

صرخ محمد أعمر في وجههم قائلا:

إننا مسافرون للقيام بأعمالنا، ولا نريد سوءا بأحد.

لم يرد أحد منهم. هدوء مطلق.

أعاد محمد أعمر:

نحن لا نريد إلحاق أذى بأي أحد.

نفس الصمت المطلق.

إنه وضع بالغ الخطروة. قرابة 200 رجل مسلحين بالبنادق القديمة. ولسنا إلا 8 أشخاص (من ضمن جماعتنا خادم يدعى عمر كهن لم أتكلم عنه لأننا أرجعناه لاحقا إلى السينغال بعد أن أصيب بمرض عضال). بصوت خافت أعطيت لجماعتي أمرا بالتراجع 30 مترا إلى الوراء. غير أن كبير القافلة الغريبة فهم قصدي (الذي يتمثل في الابتعاد عن مسافة مرمى مدافعهم القديمة)، فهيأ مدفه واقترب بنفس المسافة وتبعه أصحابه.

كرر محمد أعمر:

نحن لا نريد شرا بأحد. هل سمعتم؟ لعن الله من يريد سوءا بالناس.

أجابه أحدهم:

السلام عليكم. مرحبا بكم.

قال بونيفال متمتما:

أظن أن علينا أن نتشابك.

إذن سيقضون علينا. فلو افترضنا أننا قتلنا 15 منهم، فالبقية ستقضي علينا دون شك.

أو نهرب..

فكرة معقولة.. لكن إلى أين؟

خلال حديثنا، غادر محمد أعمر إلى الجماعة ليصافح زعيمها. فسأله عن حاله وحال والده وحال أخيه وحال خاله، إلى آخر القائمة التي تقتضيها عادة التحية عند العرب، وتبادلا الحديث وغادرت الجماعة على طابور من الجمال يتلوى كالثعبان.

بعد أيام من السير المضني والعطش، وصلنا بوزبره حيث استقبلنا الشيح بابه ولد حمدي وبنى لنا خيمة مستقلة بها كل ما يقتضيه إكرام الضيف لدى سكان الصحراء: قبة تقي البعوض، أقداح من التمر، لحم مشوي ودهن جيد. أي سخاء هذا؟.. لكن علينا أن ننتظر الثمن الذي سندفعه مقابل ذلك..

أحد سكان بوزبره يرحب بنا: "السلام عليكم".. واحد آخر مرحبا بنا: "السلام عليكم".. رابع وخامس وعاشر وسادس وعشرون وخمسون. كلهم يرموننا بـ"السلام عليكم"، ثم تأتي ذراريهم وهلم جرا.. هناك ملاحظة مهمة، فالتسول أقل زخما في بلاد إدولحاج منها في أواتيل. فهل لأنهم أغنى؟ لا، بل بسبب التأثير القوي للزعيم الروحي بابه ولد حمدي. هذا الرجل يعتبر قطعا واحدا من أفضل الرجال في العالم.

أحيل هنا إلى رسالة كتبها إلي بابه ولد حمدي، بعد فترة من زيارتنا لبوزبره، وهي بخط سكرتيره عبد الله جوب وترجمة محمد أعمر:

"أخي دوني،

أكتب إليه هذه الرسالة لأسألك عن أخبارك وعن صحتك. أما أنا فبخير لله الحمد. المهة الموكلة إليكم يمكن أن أقوم لكم بها كما تريدون إن شاء الله. يجب أن تحتفظوا بالسيد اخيارهم وزيرا. رافقوا أيضا ملك الترارزه. يجب أن تقول للفرنسيين أن أحمد سالم ملك جيد. لا أرى ملكا أفضل منه للفرنسيين..

شيخكم الحنون بابه ولد حمدي".

تدافع الأطفال وهم يصرخون بأصوات حادة: "إنه أحمد سالم.. إنه أحمد سالم".. قلت في نفسي: "هل يتعلق الأمر فعلا بملك الترارزه أحمد سالم؟.. أي حظ أمامنا، بل أي حظ محفوف بالمخاطر، فإذا كان قد أزعج نفسه ليصل إلينا فلعل عنده ما يقوله.. قلت:

بونيفال، احذر على بضاعتنا وأغراضنا الزهيدة.

للأسف، لمجرد النظر إليها نجد أنها تتناقص في ما يبدو. بيني وبيينك، أظن أننا نتعرض للسرقة دون علمنا.

أنت تظن، أما أنا فمتأكد. لكن ماذا يمكننا فعله؟ عددنا قليل لدرجة تجعلنا لا نستطيع الاحتجاج. إذا فتحنا أعيننا أكثر يمكن أن يغمضوها إلى الأبد. إذن لنصمت ونسجل القضية في خانة "الخسائر". لا يمكنك أن تعطيني اسم مسافر أوربي واحد دخل إفريقيا فلم ينهب قليلا من قبل القبائل البدائية التي يلتقيها في طريقه.

ها هو أحمد سالم شخصيا يتراءى أمامنا مع حراسه وضباطه: أربعة محاربين يحملون بنادقهم.

يستقبله شيخه بابه ولد حمدي استقبالا خاطفا ويبصق له في يديه ليبعد عنه الشرور. يدخل جلالته تحت الخيمة ويجلس قربنا في المكان الأنسب. يمد الملك يده اليمنى مع شيء من اللامبالاة وهو يكاد لا يرد على عبارات الترحيب التي نردد في وجهه. نلاحظ أن السلطان لا يريد أن يخسر وقته في كلام غير مجدٍ. عندما رأى الملك حزمة من التبغ على ركبة إدريس استولى عليها ببساطة وتفحصها جدا، وببساطة أيضا أخفاها في جيب فضفاضته. وبنفس الطريقة وبنفس عدم الاكتراث أتبعها بولاعة ووعاء ولفائف سيجارة ومفكك لوالب.. يا إلهي، ماذا سيفعل بكل هذا؟

يهيج الأمير، يبدو أنه يريد شيئا. بعناية ولطف، أسرعت إلى وضع أغراضنا المبعثرة في مكان آمن. يبدو أن الملك غير مرتاح في وضعية جلوسه. قام عبد الله بالبحث عن طريقة سريعة لمعالجة الموضوع. فاقترب من جلالته مطضجعا ليضع هذا الأخير رأسه على بطن عبد الله في وضع يريحه أكثر. شخص من قافلتنا يكون في هذا الموقف الخسيس؟.. حاولت أن أحتج، لكن محمد أعمر أسكتني قائلا بأن الملك هنا يستحق كل الشرف والتبجيل. لقد تفهمت راعي الجمال عبد الله. إنه يعتبر أنه من النبل بمكان أن تكون وسادة لملكك. أخيرا أصبح ضيفنا المبجل في وضعية مريحة بالنسبة له. ها هو يرمي بعيدا منه، لكن على مقربة منا نحن للأسف، رذاذا من ريقه.. لقد نظر مرات عديدة، وباهتمام كبير، إلى أسلحتنا وعفشنا.. سحب نعلا مهترئة من قدمه اليسرى ليضعها في قدمه اليمنى، ثم تمخط بأصابعه (أخرج من أنفه مخاطا). انتهزنا فرصة انشغاله بمهامه الكثيرة لنرسم له صورة يدوية: إنه شاب في مقتبل العمر، يكاد يبلغ الخامسة والعرشين من عمره، قــدّه متوسط، عيناه سوداوان، تعابير وجهه المدور عذبة، وإن ألمحت إلى مكر تعززه لحية مستقيمة يتدلى عليها عارض وكيلِ جمهورية. يلبس العاهل قماشا من النيله، يحيط به نوع من الكندوره، كما يلبس سروالا أبيض هو وحده المخول للـُـبسه. ويمكن لرعيته أن يلبسوا السراويل، لكنها لا تكون بيضاء أبدا.

بدأ الزعيم أحمد سالم يتكلم، فقال (حسب ترجمة محمد أعمر):

يحفظكم الله. إن البيظان أصدقاء الفرنسيين والفرنسيون أصدقاء البيظان، والبيظان لا يريدون شرا بالفرنسيين". ودون مقدمات قال: "هل جئت معك بهدايا؟". كان بودي أن أقول: "إلى الجحيم، لا شيء دون الهدايا، والهدايا على كل الألسن؟".

بدأ الملك يمرر يده على القطن والقماش، يتخير حسب صلاحيتها، ويستشير رفاقه عن أيها أحسن. انتهى به الأمر إلى اختيار معطف أحمر مزركش بسترة مذهبة، كما اختار 50 قطعة من النيله، وبندقية صيد ذات طلقتين مع ذخيرتها من مسحوق البارود، ورصاصا، و10 علب من الشاي، و5 قلائد، ومرآة كبيرة، وصندوقا من ورق التبغ، والكثير من الأدوات والأشياء المختلفة. وكبديل عن هذه الثروات (والثروات هنا ليست بالمعنى التهكمي) أعطانا الأمير رسالة تضمن مرورنا بكل حرية وسلام من أرض الترارزه حتى نصل بلاد لعلب بالجنوب الغربي لآدرار.

ها هو اخيارهم (صاحب الحظوة والمقام الرفيع) يقدم إلي حزمة من النصائح.. يقول لي:

إبق في بوزبره. وبعد ثلاثة أشهر تسير معنا نحن في "أمجبور" حتى تصل انتنداتن. أولاد الدليم شرسون، كذلك لعلب. إذا ذهبت بدوننا سيقتلونك. وعكسا لذلك، إذا ذهبت بصحبتنا ورأونا سيفرون كالطيور من أمامنا.

أعطيت لأخيارهم هدية من قالبين من السكر شكرا له على عروضه اللطيفة، لكنني لن أقبل بنصائحه. فالانتظار يعني الفشل الحتمي. فخلال الثلاثة أشهر التي يقترح ستنتهي مؤننا التي بدأت تتناقص كثيرا.

ثم أتى بابه ولد حمدي ليتقاضى ثمن كراء خيمته وهداياه قبل أن يحيطنا ببركاته من خلال حركات صغيرة بيده المرتعشة. كان يدعونا بـ "أبنائه" ويوزع على عمالنا أقداحا من الأرز والسمك المجفف.

في المساء، وتحت رئاسة أحمد ىسالم، ضُرب الطبل على شرفنا وكان للناي وقع خاص.

بعد سماع الموسيقى والأناشيد التي تتخللها مقاطع من "لا إله إلا الله"، وبعد توزيع السكاكين والمقصات وأوراق التبغ، وبعد شرب لبن النوق، أردنا أن نخلد للنوم قبل سفرنا، إلا أن البيظان، بسبب أنهم لا يفعلون أي شيء خلال النهار، يسهرون الليل كله في سمر لا نهاية له. لم يتيسر النوم لأن حديثا متشعبا بدأ حولنا نحن: ماذا نريد؟ ماذا نقصد؟ لماذا نأتي إلى أرض البيظان؟ هل نريد احتلال الترارزه وآدرار كما فعلنا بأرض الولوف؟.. كنت مرغما على تأكيد حسن نوايانا، متسائلا: في ماذا يفيدنا احتلال الترارزه وآدرار؟ إننا لا نريد شرا بأحد وسنظل أصدقاء لمن سيظلون أصدقاء لنا.. لقد بدا الشك واضحا، فموقفي لم يعط النتيجة المرجوة. فالمرونة لدى هذه الشعوب (نصف المراهقة) تعتبر مرادفا للضعف. يجب أن أظهر القوة، لذلك تابعت بتبجح:

سنبقى دائما أصدقاء لمن يبقون أصدقاء لنا، لكننا سنكون شرا مستطيرا لأولئك الذين يصبحون أعداء لنا. فالجنود البيض أكثر من حصى الأرض، ولديهم سيارات كبيرة تقلهم؛ وهي سريعة بحيث يمكن أن تغادر من هنا حتى تيرس في يوم واحد، ولديهم بواخر كبيرة مثل التلال، ومدافعهم مفزعة وتستطيع برصاصها اختراق قافلة من 200 جمل.

هذا صحيح، يقول اخيارهم متذمرا.

ثم يقوم المترجم محمد أعمر بوصف القوة الخارقة لفرنسا لدرجة أن كل شخص أبدى الكثير من الإنصات.

رحلنا عبر تراب خشن بفعل كثرة شجر القتاد والطرفاء. بعد 5 ساعات من السير وصلنا قرية تنفرتس. كان بونيفال مريضا، يحس بآلام حادة وإسهال متواصل. تناول الدواء وبقينا في القرية ليلة للاستراحة. لكن ما إن انتشر خبر مفاده أن لدينا كيسا به أدوية لكل سقم وعلة حتى تدافعت الجموع نحونا: هؤلاء عـُـرْج، وهؤلاء جـُـرب، وهذا مصاب بالروماتيزم، وذلك بالربو، وبهذه سل. هناك امرأة ستينية قذرة تريد استئصال ورم، وأخرى بها بثور تحتاج مُطـَـهّرا، وتلك تحتاج عملية لكنها وسخة لدرجة ستسبب لها التقرح إن أجريت لها. أعطينا الدواء للبعض، لكنها موجة من البشر. كان علي التخلص من هؤلاء. قلت لمحمد أعمر: "قل لهم ان دواء الفرنسيين لا يستعمل ولا يعطى إلا في الصباح، فليذهبوا إلى يوم غد".

رحلنا في الغد. سرنا أياما، هددنا العطش. قلت لمحمد أعمر: "كيف سنجد الماء؟". قال ساخرا:

هذه الليلة، إذا الجمال تجري سريعا سريعا، تعرف جيدا أنها لا تتساوى في عدوها، كيف يسمي الفرنسيون هذه الدابة الصغيرة التي توجد على ظهرها قدح؟

السلحفاة.

لا تتساوى في عدوها السلحفاة والطيور.

إذن تعتقد أننا إن ربحنا الوقت في السير السريع...

سنجد ماءا عذبا هذا المساء.

لكن أي شقاء عندما وصلت قافلتنا، بعد السير المضني، حافة بئر ماؤها مالح. تابعنا سيرنا من بوطريفايه إلى انتكن. ومنها أسرعنا نحث الخطى نحو بوكوين حيث ارتمى الحمالة على مياه ضحلة وسخة ينهلون منها. قال لهم محمد أعمر: "اشربوا قليلا كي لا تمرضوا".

يبدو أن أولاد الدليم يعلمون أننا سنجتاز أرضهم وهم في انتظارنا.. غادرنا على وقع حديث هنا وحديث هناك عن أولاد الدليم وباقي قراصنة الصحراء.. هناك أشخاص ملامحهم قبيحة يمرون بجانبنا منذ أيام. حاول أحدهم، بالأمس، أن يتشاجر مع تمثالنا الضخم محمدو جالو. فصرعه جالو بعد أن شده بسرواله. عاد الرجل الغاضب بعد غد وكان مسلحا، فسدد جالو نحوه بندقيته فانسحب متوعدا. إنها بوادر تدعو إلى القلق. أصبحت استعمل حارسا ليليا مسلحا ببندقية ومـُـدية.

بعد 12 ساعة من السير وجدنا أثرا لنهبة في ما يبدو. ساد بيننا جو من الخوف.. فقـَـدَ خدمُـنا لا مبالاتهم الجميلة. أضحى من المتعذر عليهم قبول الذهاب لتعبئة القرب بالماء من بئر غير بعيدة. كان صمبه أول من عبر لنا عن خوفه، فحاولت تهدئة روعه، تبعه الطباخ إدريس الذي بدا متيقنا أنه لن يرى أبدا "أمه هذا" في دكار، وهو ينصحنا بالعودة إلى سان الويس. يحقنه بونيفال بخطاب مليء بقيّم "الشرف" و"الوطنية" و"احتقار الدنيا" و"عزة النفس" و"الميداليات العسكرية"... وعندما يتعنت يقول له بونيفال:

ماذا تريد؟ أتريد العودة إلى  السينغال؟

نعم..

كيف؟ وبأية وسيلة؟

بالجمال التي ستعطوننا..

لن أعطيك أي جمل. ويجب على الجميع أن يعلم أننا لا نريد أصحاب نوايا سيئة في قافلتنا، وإن على أي جبان وضيع يريد العودة أن يعود، لكن دون سلاح ودون مطية ودون غذاء. وإذا لم تأكله الأسود في السهول، وإذا لم تقتله أو تأسره القبائل، سوف يصل سان الويس. لكن هل تعرفون ماذا ينتظره في سان الويس؟ سوف يأخذه الوالي ويرمي به في السجن لمعاقبته على أنه لم يمض مع قادته البيض حتى نهاية رحلتهم.

قال عمر:

لكن، أين هو هذا الولفي الجبان؟ فليلعنه آباؤه، ولتبصق على وجهه زوجاته..

أضاف عمر:

نحن لا خوف.

قال محمدو جالو:

نحن نـُـقتل، لكن لا نتراجع.

قال إدريس:

عفوا..

ومن تلك اللحظة لا يوجد خدم أكثر إصرارا وشجاعة من عمر وصمبه وإدريس.

نحن الآن أمام كهل طاعن في السن، مشيته متثاقلة، محدودب الظهر، كالجني في قبحه، ينظر إلينا ونحن قادمون. يشير إلينا بالتوقف. ينزل محمد أعمر من على ظهر جمله.. يتبادلان الحديث، ثم يصعد محمد أعمر على راحلته، قائلا:

سنموت جميعنا، قالها "المرابط" عبد الرحمن..

قرب سبخة تنجماره يرقد رعاة تحت خيمة. ثم فجأة ينهضون صارخين في وجهنا بأن أولاد الدليم سيسفكون دمنا جميعا إن واصلنا المسير..

قرب بئر ملموغ نادى خمسة عبيد على عبد الله وأخبروه أن لعلب سيستقبلوننا بالرصاص بعد أسبوع.

نواصل رحلتنا لنصل تارد أماليل. يبدو أن البداة الرحل غادروا إلى إينشيري، فها هي آثارهم بادية للعيان. بدا أحد السود المرافقين لنا هزيلا بسبب الإسهال القوي، كما أصبح مرافقي بونيفال في حال يرثى لها. نستلقي على أسِرّتنا. إدريس، الذي لا يكل، يتابع الطبخ، بينما نرى السكير محمد أعمر - على غير عادته- "يتأسلم" فيأخذه هوس ديني أربع أو خمس مرات لليوم.

نستيقظ الرابعة صباحا.. أقوم بتحيين دفتر السفر.. يقوم بونيفال بتفتيش الأسلحة، يثرثر رفاقنا في ما بينهم، بينما يناجي محمد أعمر رسوله وهو يتفانى أكثر فأكثر في تدينه غير المعتاد.

بعد ليل دامس، تضيئه بروق متوهجة وتهزه رعود هائجة، نطلب من محمد أعمر أن يأتي ليحكي علينا بعض القصص البدوية. نتفاجأ بأن محمد أعمر ليس هنا. ثم فجأة نسمع صوت رصاصة.. يقف بونيفال ويتجمع حولنا الخدم. نصرخ بأعلى أصواتنا: "محمد أعمر، محمد أعمر". إنه هو من أطلق الرصاصة. يأتي محمد أعمر فنسأله: "ما الأمر؟". يقول: "إنه أمجبور من 30 شخصا".. لقد غادروا مسرعين على جمالهم، لعلهم حسبوا أننا من أولاد الدليم.. يضع مترجمنا محمد أعمر يده فوق حاجبيه وينظر إلى المنسحبين بازدراء، ثم يقول:

هؤلاء ليسوا عربا.. إنهم لـَـحْــمَـــه.

أقول له:

من أطلق الرصاصة قبل لحظات؟

ننظر إلى بندقة محمد أعمر فلا نجد رصاصة فيها. إذن هو فعلا من أطلق الرصاصة. نحكم عليه بالعقوبة التالية: سبعة أيام دون لفائف تبغ، وتسجيل الإهمال المتعمد في دفتر الملاحظات، وذلك بتهمة ترك موقعه دون إذن وبتهمة إطلاق النار دون مبرر.

يصل إلينا بيظاني حاملا رسالة من بابه ولد حمدي يخبرنا فيها بمخاطر كبيرة تنتظرنا، وأن علينا الحذر لأن لعلب يترصدوننا.. أه، وأي رجل فاضل هو الشيخ بابه. لكن سرعان ما خاب أملي في الشيخ لما قرأت حاشية الرسالة حيث كتب: "ارسلْ لي حالا، مع حامل الحروف، قطعتين من قماش القطن الأبيض". ماذا وراء رسالة شيخ إدولحاج؟ هل يريد - رأفة بنا- أن ينذرنا من الخطر المحدق بنا؟ أم أنه يخلق أعذارا لأخذ بعض مؤننا القليلة؟. إنها مشكلة صعبة لم أتمكن من حلها أبدا.

طريق طويل ووحل طيني على جنباته. حشائش وأعشاب هنا وهناك.. قطعان من النعاج المنهكة وخيام متراكمة من القماش الرديء تعود لأسر من أهل بوحبيني.

وصلنا إلى تيورور، وهي نقطة عبور غير مهمة وإن بدت على خريطة لانوي دو بيسي وكأنها عاصمة حيث يتم الحديث عن واحات كبيرة. والحقيقة أنه لا توجد أي واحات في تيورور. وهل وجدت أصلا؟. يقول النقيب فينسان أنه في سنة 1862 رأى في تيورور 2000 نخلة. واتيورور عبارة عن نقطة عبور حتمية لكل القوافل الذاهبة إلى آدرار وتيرس. كان لابد لنا من التحلي بالصبر  في هذه القرية اللعينة. أتذكر خمس ساعات أمضيتها عند حافة البئر. هذه زوجة المحارب بوبن، مربية ضخمة تزن على الأقل 300 رطل، نجدها، بمفاتنها الطافحة، تقلق تماما مدخل خيمتنا. ومن أجل فتح الطريق، كان على بونيفال أن يضحي بعلبة من التبغ وبسكاكين وشفرات حلاقة. أما المراهق إبراهيم فقد أرغمني على أن أمنحه كلمات من الفرنسية ليكتبها بأحرف عربية، فكان يكرر دون أن يسأم كلمات من قبيل: "قل لي"، "كيف الحال"، "لماذا"، "إنتظر".. كان من واجب أهل هذا الشاب متعدد اللغات أن يشكروني على ما قدمت لابنهم من معارف. لكن والده لم يكن لبقا إطلاقا. فرغم أنه وزير سابق للأمير اعلي، كما يدعي، فهو يفتقد للكياسة. فهذا الشخص المرموق يفتقد إلى أدبيات الدبلوماسية، فهو يتمرغ على سريري ويُـدخل أصابعه الوسخة في وعاء السكر. إنه يتصرف بشكل غريب جعلني أطلب من خادمنا محمدو جالو أن يبعده عنا.. أخذه الخادم الضخم وحمله بين ذراعيه وطرحه عدة أمتار وراء الخيمة. يبدو أن ما قمنا به عمل طائش. فوالد ابراهيم قام يصرخ ويصيح ويجعجع، فجاءت جموع من حيه للدفاع عنه. تم اجتياح خيمتنا. بدأوا يهددوننا. حاول عمر صمبه التصدي لهم. طرحوه أرضا وداسوه بأقدامهم. حاول استخدام بندقيته فأسرع إليه بونيفال وانتزعها منه. قلت متمتما:

لا تستخدموا السلاح الناري، وإلا سيقضون علينا.

حاول مترجمنا محمد أعمر أن يتقدم، لكنه عجز عن ذلك.. كانت صرخات التهدئة التي يطلق غير مجدية. لقد ازدادت خطورة الوضغ. وشيئا فشيئا أصبحت الجموع الهائجة أكثر اهتماما ببضائنا وأغراضنا منها بأشخاصنا. ها هم يفتحون الأوعية والصناديق مستخدمين الأيدي والسكاكين. في هذا الهرج، صادفتْ محمد أعمر فكرة ذكية، فصاح:

أحمد سالم، أحمد سالم..

فتوقفوا كلهم وهم يظنون أن هذا الزعيم المخوف قادم إليهم.

فتابع محمد أعمر يقول:

لقد تعهد الأمير أحمد سالم بحمابة هذين الفرنسيين...

هل هما زعيمان...؟

إسمعوا. من يفعل شرا بهذين الفرنسيين فهو يفعله للأمير أحمد سالم. فأحمد سالم رجل عادل، لا يجعل من مجرد تجار أعداء له.

يـُـعتبر محمد أعمر خطيبا مُفـَـوّها، فقد كان لكلامه وقع كبير على الجموع التي أرجعت كل ما نهبته من أشيائنا. وقفلوا كلهم راجعين، بينما قمنا نحن بإصلاح ما أفسدته هذه "المعركة"، وأسرعنا في مغادرة اتيورور.

ها نحن نصل اعريكيت حيث يوجد سوق لبيع المواشي. مقابل 30 قطعة من النيله اشترينا جملا للحمل ليكون بديلا لجمل لم يعد يطيق الحمل.

بعد أيام من المسير دخلنا تفلي، ومن ثم عرجنا لنصل حوض آركين. فمن ميناء هدي (مرسى البيظان الذي ازدهر في عهد آندري ابري) إلى أكادير يبلغ حوض آركين 200 كلم طولا و83 كلم عرضا.. بقينا في المرسى أسبوعا. هناك سبخة اجريده المالحة التي يستغلها تندغه، وهناك آثار منازل بالية وسبعة مدافع ثقيلة قديمة غارقة إلى ثلثها في التراب تخلد المكان الذي كان الهولنديون يتاجرون فيه قديما.

غادرنا حوض آركين.. سرنا أياما فوصلنا أرضا صلبة، تكثر فيها الأصداف والأحراش. إنها بداية إينشيري. كل الآبار التي مررنا بها خالية من الماء. أصبحت الجمال متعبة، وصار الإعياء باديا على الجميع رجالا وجمالا. أخذ العطش يهدد حياتنا. لم تعد الإبل قادرة على حمل أغراضنا لمسافة أطول. صرنا مرغمين على رمي بعض أغراضنا كي تتمكن الجمال من حمل البقية. وجدنا ماء ضحلا غاية في القذارة. كان حمالتنا في غاية الحاجة إلى الشراب.. كنت أشجعهم، فيما نحاول حث الجمال على السير أكثر عسانا نجد نقطة ماء شروب. يقول لي المترجم محمد أعمر:

تعرف، نحن لا يمكن البقاء هنا.

معك حق، لكننا نسير منذ 10 ساعات في حرارة تبلغ  55 درجة ولم نعثر على ماء.

أنت تموت إذن؟

أقول لبونيفال:

أتظننا نستطيع السير 48 ساعة إضافية؟

هذا سيكون صعبا، لكننا سنحاول...

عمر جاثم لا يتحرك.

أقول له:

ما بك؟

آلام في المعدة.

تشجع يا رجل، غدا ستستريح وتتلقى العلاج.

أصبحنا نحس بحرقة في أحلاقنا.. يتوقف عبد الله دون سابق إنذار، تأخذه حالة عصبية عنيفة. أعيده إلى صوابه.. نتحرك رويدا رويدا.. العطش يزداد والحرارة تستعر.. صمت مطبق.. أحاول قطعه دون جدوى.. إنها المأساة. يتلوى عمر على راحلته، ثم يصبح شاحبا.. يقول محمد أعمر: "إذا تحركنا سنصل غدا إلى نقطة ماء".. لكن، ما لنا وللحركة. آه لو كان بوسعي أن أضرب كل هذه الدواب البشرية لتتقدم بسرعة.. هكذا نـَـفــَـــقَ جملُ بونيفال. وها أنا أساعده على القيام بعد سقوط دابته.. يقول لي:

فيمَ الفائدة من مساعدتي؟ لم أعد أستطيع التحرك مترا واحدا. خارت قواي ولديّ آلام فظيعة.

وضـْـع مربك مع مريضين وعلى مسافة بعيدة من أول بئر. أقدم الأوامر بالنزول وإعداد الخيمة للراحة.. بدأ رفيقي يحس بالحمى وبدأت آلامه تتزايد.. غادر محمد أعمر عساه بالصدفة يجد حيا أو رعاة.. ها هو يعود.. كم نحن سعداء فهو يحمل معه قربتين مليئتين بالماء الشروب.. شرب الجميع وتعافى الكل، وبقينا يومين للاستراحة ولنعطي بونيفال وقتا لاستعادة قوته.

منذ أمس ونحن في آكنيتير: آخر قرى لعلب. آكنيتير قرية مهمة لأنها تضم 200 شخص دون النساء والأطفال.. قبل السادسة صباحا علمنا أن زعيم الحي مولاي يقوم بزيارة لنا.. الزعيم مولاي رجل عملاق، كله عظام، مع لحية سوداء قاسية كالحبال، يبدو للوهلة الأولى رقيقا، وبالتمعن فيه تظهر شخصيته الماكرة.. الرجل البشع يبدأ بأخذ 25 قطعة من النيله مقابل حقنا في المرور بأرضه، ثم تتزايد طلباته بشكل ملفت بحيث أنه في النهاية استولى على ربع أغراضنا.. هل نستطيع الرفض؟ لا. فمولاي ملأ المكان بعبيده، وبكلمة واحدة يمكن لرعيته هذه أن تنتزع سلاحنا في لحظة واحدة.. أخرج محمد أعمر من "أحايكه" رسالة أحمد سالم أمير الترارزه التي منحنا خلال مقامنا في بوزبره. غير أن الزعيم أعاد إليه الرسالة فورا وببعض الازدراء ودون أبسط تعليق. فهمت أن لعلب ليسوا من أخلص رعايا العاهل أحمد سالم، بل حتى أنهم يحتقرون شخصه لأسباب منها الـ 500 كلم التي تفصل أرضهم عن الكبله.. انسحب مولاي إلى خيمته، وبقينا نحن في حيرتنا.. خمسون زوجا من الأعين تحدق في أغراضنا. وتمتد كل الأيدي لتأخذ كل ما التقته من أشيائنا.. قلت آمرا:

عمر، عبد الله، إدريس، قفوا وأخرجوا المُدي..

استعراضنا للقوة لم يعط أية نتيجة. عكسا لذلك، فهو يغيظهم ويثير سخطهم. بدا خدمُـنا مفزوعين جدا. فجأة سمعنا لجبات وصراخا.. كان السبب هو أن شابا محاربا حاول الاستيلاء على قطعة قماش يملكها محمدو جالو. وبما أنه عنيف وقوي وشجاع أخذ برقبة الشاب وصرعه وبدأ يضربه. إنه مصدر الأصوات التي نسمع.. أفواج تأتي مسرعة، ثم تبدأ عمليات ضرب مجموعتنا ونهب ما تبقى من أغراضنا.. تم اقتلاع أوتاد خيمتنا، تم تكسير حقائبنا، 12 صعلوكا جلسوا على ركبهم قربنا متأهبين لإطلاق النار إذا حاولنا أبسط مقاومة. إلا أننا لم نتحرك: بطن على بطن، نفـَـس في نفــَـس.. قال بونيفال:

هل تعلم أنهم إن تابعوا على هذا المنوال لن يبقى لنا أي شيء؟

لقد بعثت بمحمد أعمر ليبحث عن مولاي، لكن هذا الوغد لن يأتي. إنه متمالئ، فبأمر منه تعرضنا للضرب والسرقة.

أخيرا رفع مولاي يده من بعيد في إشارة إلى الصعاليك المتجمعين حولنا فانسحبوا كلهم.. لم يعد بالإمكان البقاء لحظة واحدة في هذا المكان.. لقد قررنا الرحيل، وتفاجأنا بأن مولاي قبــِــل ذلك بسرعة عكس ما كنا نتصور.. بعد ساعات من السير توقفت القافلة عند بئر.. ملأنا القرب.. ولأن جمالنا أصابها إعياء شديد ولأن مصادرنا لم تعد كافية لشراء جمال أخرى خاصة في أرض تكن لنا الكثير من العداء، اتفقنا على أن نتوجه إلى المهنبار؟!.. وهو قرية من الصيادين على مقربة من حوض آركين (ربما أنه يعني انمامغار). ومن هناك ننتقل على ظهر قارب صغير إلى أكِادير لنحل في ضيافة أولاد بسبع فنشكل حامية ترافقنا حتى واد الذهب.

قرية المهنبار تقع عند رأس ميريك داخل حوض آركين. لا توجد هنا غير أعرشة وخيام قليلة أسقطتها الرياح العاصفة. نرى كوخا وسياجا تجفف عليه الأسماك. روائح العفونة منتشرة بشكل واسع. أسراب الذباب تحلق حول الأوساخ، ثم تنزل على وجهي مسرورة بأنها عثرت في النهاية على بشرة بيضاء. وفي الليل يغادر الذباب ليترك مكانه للبعوض. وبينما نحن نتحلق حول الشاي، أردنا النقاش مع عبد الله ولد اعلي. إنه شيخ هرم يستند على عكاز, وهو لا يريد بأي ثمن منحنا قاربه. أعرف بأنه، خوفا من أن يتم إشعال كوخه وممتلكاته، لا يريد التعامل معنا بعد أن تلقى تحذيرا من مغبة ذلك. تكتيكات لعلب وأولاد الدليم واضحة، فهم يريدون منعنا من أية وسيلة نقل بغية إبقائنا في أرضهم كي يتمكنوا من نهبنا وسرقتنا وحتى قتلنا إن شاءوا.. قلنا لعبد الله ولد اعلي:

ألا تريد إعطاءنا قاربك؟

لا..

هذه هي كلمتك الأخيرة؟

نعم.

إذن سنأخذ منك قاربك رغم أنفك.

قال محمد أعمر:

أنت إذن لا تريد التعامل معنا، إذن بسم الله نبدأ أخذ قاربك غصبا عنك.. نحن وحدنا المسلحون في هذه القرية. وسوف نطلق النار إذا احتجنا لذلك.

دخل إدريس ومحمدو جالو في الماء وقاما بحل رباط مرسى القارب. لم يبق لنا إلا أن نجد صيادا خبيرا في المنطقة ليرافقنا حتى آكنيتير.. إنه دور محمد أعمر الذي يظهر قدرات دبلوماسية وخطابية فائقة.. لابد أنه هدد الصياد عبد الله ولد اعلي بالصواعق الفرنسية التي لا تـُـبقي، ولابد أنه قال له بأنه إن رفض فإن فرنسا ستشعل كل أرض البيظان، وأن بواخر فرنسية مليئة بالجنود ستأتي إلى المهنبار لتذبح أسرته وتشعل القرية إن هو رفض. ولابد أنه قال أمورا أخرى أكثر فظاعة لأنه بعد نصف ساعة من المفاوضات العسيرة، التي تتخللها حركات وصرخات، تم الاتفاق.

رتبنا أغراضنا وأخذنا معنا ما أمكن حمله وبدأنا الاستعداد للمغادرة.. بعد عشرين دقيقة رأينا جملا مسرعا باتجاهنا. قلت لعبد الله ومحمد أعمر أن يستقبلاه للاستفسار، بينما أمرت إدريس وعمر بأن يكونا على استعداد تام لإطلاق النار. نزل الرجل بسرعة من فوق جمله وقال لمحمد أعمر كلمات في أذنه.. احْـمَــرّ وجه محمد أعمر واصفرّ واخضرّ وأرخى ذراعيه على سرواله.. الرجل الشجاع (يبدو أن في البيظان بقية من الشجعان) يعرف مترجمنا محمد أعمر منذ زمن بعيد وهو على علاقة وطيدة به. لقد جاء ليخبره أن لعلب وأصدقاءهم في التلصص أولاد الدليم اتفقوا على أن يهجموا علينا، وهم الآن على أهبة القيام بذلك.. أهديت للرجل بنطلونا جميلا وكيسا من السكر.. وضعنا باقي الأمتعة في القارب وبدأنا في دحره داخل الماء لننطلق.. كان الليل قد داهمنا.. فجأة رأينا أشباح رجال يتسللون في ظلمة الليل، يتحركون ببطء.. إنهم لعلب يريدون مفاجأتنا. حضـّرنا الأسلحة. قال بونيفال:

هذا الظلام قد ينقذ حياتنا.

لقد وصل قطاع الطرق إلى عتبة الماء. غير أننا ابتعدنا قليلا عن مرمى بنادقهم القديمة. لقد انتشلنا أنفسنا. لكن هل يمكن الحديث عن نجاة حقيقية؟ لا، فاليوم لعلب وغدا العطش والجوع. فما عندنا من مُـؤن لا يتجاوز كيسين من البسكويت و10 قطع من الشوكلاطة. لم يعد لدينا أي زاد.. لقد تركنا كل شيء على شاطئ المهنبار. ومما زاد شقاءنا أن إحدى القِــرب انخرقت فتدفق ماؤها. لابد أن نصل أكادير خلال ثلاثة أيام، وإلا..

بعد ساعات من التجديف ارتطم قاربنا بتل بحري.. انقلب على حافته اليمنى.. انقلبنا نحن إلى الأسفل وأقدامنا إلى الأعلى.. تفحصنا عمق الماء فإذا به أقل من 20 سنتمتر. ماذا علينا أن نفعل؟ لا شيء غير انتظار انحسار الماء.. في الصباح دفعنا القارب بأيدينا حتى وصل عمقا من الماء مكنه من متابعة الإبحار.. ها نحن نتجه شمالا.. لم نكن بعيدين من الشاطئ.. رأيت أشخاصا على الشاطئ.. أعطيت للمترجم محمد أعمر النظارة المكبرة.. ألقى نظرة وقال: "إنهم فرسان من لعلب وأولاد الديلم.. إنهم مسلحون".. يبدو أنهم مصرون على لقائنا.. إذن لنتوجه بسرعة نحو الرأس الأبيض. خلال يومين من الإرهاق والتجديف والجلوس والوقوف نصل أخيرا إلى آكنيتير. غير أن أولاد بسبع يوجدون في مكان أبعد لأنهم يتحركون حسب الفصول وحسب إكراهات الصيد.. استرحنا قليلا ثم تابعنا إبحارنا في ماء غير عميق.. وبعد ساعات قال عبد الله ولد اعلي: "هذه أرض لا يوجد فيها لعلب ولا أولاد الدليم". نزلنا من القارب وأكد لنا محمد أعمر أن حيا من أهل بوحبيني يوجد غير بعيد منا. أرسلته ليبحث عن هذا الحي.. أمضى وقتا ثم عاد ومعه رجل وجهه مغطى بالشام، وهو يقود ستة جمال. سألته: "بكم تبيع جمالك؟". قال: "بـ 30 قطعة من النيله للجمل الواحد".

أخلينا سبيل عبد الله ولد اعلي.. وتساءلنا: هل يمكننا المسير أبعد بستة جمال ونحن سبعة رجال ومؤننا لم تعد تكفي لأي شيء؟.. لنرحل على كل حال.. بعد أيام من التوغل إلى الشمال الشرقي، ها نحن على مشارف تيرس التي لم يزرها قبلنا غير فينسان وباني.. تيرس لا تختلف في شيء عن تازيازت وتازيازت لا تختلف في شيء عن آكنيتير. إنه الشبه الممل المحبط. لكن متى نصل آدرار؟

 

 


 

ليست هناك تعليقات: