كانت إحدى
أسناني السفلى تؤرقني دائما.. فقد أمضيت أكثر من سنة و أنا أحاول أن أستأصلها بطرف
لساني.. و عجزت عن ذلك عدة مرات.. و أردت أحيانا أن أستأصلها عن طريق فرشاة
الأسنان.. و لكنها استعصت عليها هي الأخرى.. كنت أراها صارت عائقا لدي عندما أتكلم
لأنها تجمع إلى ذلك الصوت المبحوح نوعا آخر من سوء الأداء في نطق بعض الحروف..
خاصة من الحروف بين الأسنانية..
لم أشأ أن
أذهب إلى طبيب الأسنان لاقتلاعها.. لأنني ما زلت أتذكر قلق طبيب الأسنان ( ميكا)
في مستشفى أطار عندما وخزني بحقنة مخدرة في اللثة من أجل انتزاع إحدى أضراسي فلاحظ
أني تعرقت و كدت أسقط مغشيا عليَ لولا عناية الله و منديل الكلينيكس الرطب الذي
صار يمرره على وجهي.. فقال لي في النهاية.. ( إن لديك حساسية من هذا المخدر فتجنب
استعماله لك بعد اليوم..).. فصار لدي خوف كبير من اقتلاع أسناني مع أنني كنت في
الأصل أخاف من ذلك..
لقد كان
انتزاع الأسنان من أشد العقوبات الجسدية التي يُقسى بها على الأطفال في عهدنا..
أتذكر يوم
عضضت الشاعر الكبير المرحوم أحمدو بمب ولد أباتنه في وسطى يده عندما كان ينتزع
نابين
رآهما والدي_ رحمه الله_ عائقا أمام نبات نابين أخريين جديدتين...
لقد أعطاني
والدي ذلك الصباح رسالة منه كرسالة عمرو بن هند للشاعر المتلمس.. كتب إلى المرحوم
أحمدو بمبه أن ينزع أنيابي الأربع.. و قال لي ( إذهب بهذه الوثيقة إلى "إبب
ولد أباتنه.. فسيعطيك علبة من البسكويت.." ذهبت إليه فوجدته يحتلب إحدى نوقه
و دفعت له الوثيقة و هو قائم تحت الناقة.. نظر فيها و قال لي ( انتظر قليلا ريثما
أنتهي).. رددت عليه..( إني متعجل.. لأن أصحابي سبقوني إلى ألواحهم..)
ابتسم
ابتسامته الظريفة, لا شك أنه أدرك أنني لا أعرف فحوى الرسالة و ذلك سبب
ابتسامته... أنهى احتلاب الناقة و أمسك بذراعي و نادى امبارك لكي يمسكني جيدا..
كان صديقي أحمد سالم, ابنه, غير بعيد.. و كان المشهد يثير من ضحكه..لكنه لا يستطيع
أن يظهر ضحكه على مرأى من والده و مني خاصة.. لأنني كنت عنيفا في معاملة أترابي
عندما يسخرون من بعض سقطاتي....
سمعت صوت
المدية و هي تحدث احتكاكا قويا و مزعجا بين أسناني... اقتلع الرباعية الأولى بجهد
جهيد ثم الثانية السفلى.... كانت الهوة بين أسناني كبيرة ذلك اليوم... و لكنها
صارت أكبر اليوم عندما أسقطت بجهد أكبر تلك الثنية... التي لا تشبه ثنية
الوداع...عندما نظرت إلى أصلها لاحظت أن لها جذرا يشبه الجذور الدرنية.. و أن ما
يظهر منها يشبه ما يظهر من الآيسبرغ... أو نبات ( التيفا) الضار بالمزروعات...
حضرت يوما
عملية استئصال لبعض هذه النباتات في إطار نشاط تقوم به منظمة استثمار نهر السنغال
في بلدة سكام... إن ما نراه من هذه النبتة المستعمرة للمياه لا يمثل سوى نسبة
ضئيلة منها...
لقد تركت
هذه الثنية فراغا كبيرا بين أسناني.. تركت هوة كبيرة بين أسناني...
ضحك علي صاحب تجربة سابقة في تساقط الأسنان من
أصدقائي... قائلا إن بقية الأسنان الآن ستجد التهوية الكافية...!
لقد صرت
نصف أثرم... أو شئتم... ثلاثة أرباع أثرم... نظرا لاتساع الهوة...
اتساع
الهوة بين مكونات هذا الطاقم الأسناني الطبيعي بعضه مع بعض.... هوة سحيقة تشبه تلك
التي توجد بين من يمتلك عشرات العمارات في نواكشوط و يطمح إلى اقتناء عمارات أخرى
في المغرب و لاس بالماس و مدريد... و بين من لا يمتلك أي عقار في مسقط رأسه الذي
وُلد فيه و به نشأ....
اتساع
الهوة بين من يقتتلون بالعشرات في الازدحام على الصدقات و بين من يبذرون مئات
الملايين لسبب و لغير سبب...
اتساع
الهوة بين من يمتلك آلاف رؤوس الماشية و بين من
يلجأ إلى نصيحة المؤرخ الشهير و الشاعر المرحوم المختار ولد حامدن عندما
يقول: لتشتر إن ترد لبنا (كَلريا)
و (سليا) إن ترد لبنا و زبده...
يلجأ إلى
ذلك عندما يريد أن يلين وجبة العصيد القمحي الذي لا يجد في ليالي الشتاء القاسية
الطويلة من البُلغة سواه...
مرددا مع
امرئ القيس: ألا إن لكن إبلٌ فمعزى كأن قرون جلتها العصي...
حذار من
(كان) في البيت... إنها كان التامة... التي تطلُب فاعلا... لا اسما و خبرا
كالناقصة....
حدثني
صديقي العزيز ونها ولد صمباره أنه رافق, في نهاية الستينات, بعثة حكومية ( تبشَر) بتوزيع بعض المواد
الغذائية على المواطنين في تكَانت... حتى التقى بالمرحوم الحضرمي ولد خطري.. فسأله الحضرمي عن المهمة التي قدم
من أجلها.. فرد عليه ونها بأنهم جاؤوا لإشعار المواطنين بعزم الدولة توزيع بعض
المواد الغذائية على المواطنين..و منها مادة القمح... فرد عليه الحضرمي قائلا:
" بئس ما جئتم به لأهل تكِانت... كانوا يعتمدون على منتوجهم المحلي في
عاداتهم الغذائية.. و أردتم أن ترهنوا غذاءهم بمادة مستوردة.. ستكون مجانية في
البداية و لكنها ستكون صعبة المنال في المستقبل القريب....
حدثني
ونها قال:
"
عدتُ إلى نواكشوط و أمضيتُ سنة... و أخذت عطلتي مع موسم الحصاد, عندما يحصد أهل
الوديان أنواع المحاصيل بما فيها الذرة و الفاصوليا.... و كان المحصول في تلك
السنة هاما.... و رافقني بعض الزملاء..
فنزلنا عند الأسرة في مدينة الرشيد التاريخية... و قُدمت لنا حوالي الساعة العاشرة
وجبة المشوي... كعادة من يريد إكرام ضيفه هنا... و انتظرنا وجبة الكسكس
المعهودة... حتى صلينا الظهر... فذهبت إلى
النساء القائمات على إعداد الوجبات مستفهما لماذا تأخر الغداء كل هذا التأخر..
فقلن و هن متأسفات.... " كنا نبحث عن بعض القمح لنُعِد لكم منه طعام الغداء و
لم نجده إلا اللحظة... و سنقوم بإعداد الغداء في الحال!
قال: " لماذا تبحثون عن القمح و أنتم في
موسم الحصاد و قد بلغني أن الفصل كان جيدا..." فقلن لي, يقول ونها, إن
المحاصيل التي تنتج محليا لم تعُد تناسب أذواقنا...."! فتذكرتُ عند ذلك كلام (المرحوم) الحضرمي و أدركتُ سرعة تغيَر العقلية إلى السلب في مجتمعنا
الموريتاني...
إننا شعب نستورد كل ما نستهلكه... و نستورد تارة ما لا
نستهلك... صرنا نستورد كل شيء... حتى أذواقنا... نستوردها من خارج البلاد....
و
الإنتاج.... شبه معدوم... لأنه غير مدعوم لا من الدولة و لا من المواطن..
فالمواطن
لا يستهلك, في الغالب, المنتوج المحلي... و الدولة لم تعد تشجع بعض النشاطات التي
تعود بالفائدة على المواطنين.. لا لسبب غياب الإرادة من السلطات العليا... و إنما
بسبب استحواذ (مافيا) من رجال الأعمال على كل ما من شأنه أن يعود بالفائدة
على المواطن البسيط... فتقوم الدولة بوضع كل العراقيل أمام هؤلاء لمنعهم من الوصول
إلى ملء الشروط التي يشترطها الممولون من أجل الحصول على هذه التمويلات...
حدثني أحد
خبراء في المحاسبة قال: " الشركاء الخارجيون صرحوا أن الأغلفة المالية
المخصصة لتنمية و تطوير القطاع الزراعي كثيرا ما تنتهي فترتها و لمَا يتم استغلال
50% منها.. نظرا للعراقيل التي تضعها القطاعات الحكومية أمام المواطنين... و عند
ذلك تطلب الحكومة, عبثا, من الشركاء منح
ذات الغلاف المالي الذي خُصص لهذا النشاط في السابق... فما يكون من الممولين إلا
أن يمتنعوا من ذلك... بذريعة أن الدولة ليست بحاجة إليه!".
و الدولة
مع ذلك لم تستثمر هذه التمويلات لأن وجهتها ليست إلى القطاعات الحكومية في الأصل..
فصار
بإمكاننا أن نردد مع الأستاذ إشدو قولته المشهورة:
".....
ما دوركم؟
لا تصنعون_ على الأقل_ لنا إبر....
ما فضلكم؟
لا
تُنزلون_ على الأقل_ لنا المطر!
تتجبرون...
و تقعدون
على هوانا كالقدر....
لا
تزرعون.. و تفسدون الزرع... تجنون الثمر...
....
و تقدِمون
دماءنا للمستغلين الأخر...! ( من
قصيدة أطفالنا يتساءلون).
فتعمل تلك
التمويلات على توسيع الهوة مجددا بين المواطنين و يتعمق الشرخ بين طبقات
المجتمع... و ربما يثير ذلك من الحقد ما يثيره... حتى تحدَث البعض عن أن هذه
الممارسات ربما تجر لحرب أهلية... لا على أساس قومي أو عرقي أو سياسي... و إنما
على أساس طبقي, لا قدر الله...
قال لي
صاحب السوابق في تساقط الأسنان إن الهوة بين الثنية و الرباعية ستضيق مع مرور
الزمن.. و هو ما جعلني أنتظر ذلك بفارغ الصبر.. بيد أنني لم ألاحظ بعدُ إلا أن
الهوة ما زالت قائمة بعد مرور أكثر من شهر على فقدان تلك الثنية المقيتة.. التي كنت أفكر في الاحتفاظ بها... حتى رأيت
قاعدتها الكبيرة التي تشبه, كما أسلفت, الجذور الدرنية فتيممت بها مكانا قصيا من
عرض الحائط و رميت بها بعد أن صببت عليها جام لعناتي... لِما أرقتني الليالي ذات العدد.... و هل تضيق
الهوة بين طبقات مجتمعنا....؟ سؤال لم أطرحه على صاحب التجربة في فقد الأسنان... و
إنما أطرحه على اقتصاديينا و شركائنا في التنمية.... إلى لقاء.
شفيق البدوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق