" رمضان ياااااااا
شهر الرضى و الرحمة..... رمضاااااان...."
ارتبطت كلمات هذه الأغنية
عندي, حتى الآن, بالتمرات التي كانت تُسيل
لُعابي من مائدة إفطار أبويَ الكريمين. تمرات تجعلها أمي, رحمها الله, في كفي و تشدَ جيدا على أصابعي عندما تريد مني
أن أناولها بعض الحاجات من جانب البيت.... لم أكن لأُنصت إلى أوامرها... رغم تقديري
لها, نظرا لانشغال بالي بالنظر إلى ذلك
المذق المترع حليبا و سكرا.... كانوا يقولون لنا إن الشرب من شراب الصائم قبله
يورث العمى... و مع ذلك كنت دائما أنتظر تلك الحسوة التي تناولني إياها أمي عندما
تريد أن تجرب مستوى تركيز الحليب في الشراب أو مستوى تركيز مادة السكر فيه ....
كنت حاضرا دائما إلى جانب مائدة الإفطار... إفطار الصائم... هكذا صاروا يسمونه في
مرحلة لاحقة..
و لكنه لم يعد بالنكهة التي كان بها.... لقد صار عبارة عن مادة جافة
من خنشات الأرز و السكر و حليب ( غلوريا) بالإضافة إلى بعض التمور التي أضيف إليها
" سكر مطحون...." كعناقيد
القباني في ترصيعه بالذهب على السيف الدمشقي...
كان أئمة المساجد يشكلون
طابورا أمام المديريات الجهوية للشؤون الإسلامية من أجل الحصول على هذه الهبة مع
مطلع شهر رمضان من كل سنة.. و لكن ظروفا معينة جاءت لتضع حدا لهذا العون السخي من
الوزارة.... بذريعة أن أئمة المساجد ليسوا بحاجة لذلك!
يرتل القارئ محمد لغظف
ولد محمد سيدي من آي الذكر الحكيم.. و المنزل
يتعطر برائحة.... اللحم الناضج و البطاطا و
البصل.. لقد كانت للبصل رائحة أقوى من رائحته الآن.. لقد حاد كل شيء عن أصله...
الدجاج.... لم يعد الدجاج الذي نعرفه و
البيض لم يعد من الدجاج.... و الجدل البيزنطي لم يعد قائما...( الدجاجة من البيضة
أم البيضة من الدجاجة....).
لم يعُد زهره ذلك العُرفُط
الذي عشره نحلُ عسل أمنا سودة بنت زمعة
رضي الله عنها... ( كلام أرادت به أمنا عائشة أن تنفر النبي صلى الله عليه وسلم من بعض العسل الذي كانت تقدمه له أمنا سودة..
فقالت له عائشة " إن كان عسلا فإن نحله قد عشر العرفط... و العرفط هو زهر
الثوم....)..
يجلس أبي في الجانب
الشرقي من الخيمة محترما (حدوده الجغرافية..) و الحدود هنا ليست وهمية.... كحد الجلد الذي صدر
في حق مغتصب البنت ذات الربيعين... إنها حدود فعلية... فما يقع من الفراش شرقي
الركيزتين هو منطقة نفوذ الأب و ما يقع بينهما إلى الغرب منهما هو منطقة نفوذ الأم... و حتى لا تختلط الأوراق يجلس
الذكور من الأولاد في (المنطقة المحايدة) الواقعة بين الركيزتين.... بينما تجلس
البنات خلف الأم... و لا تكون وجوههن إلى
قُبُل البيت...
كان البيت هنا متميزا...
فهو يتسع للأسرة مهما كان عدد أفرادها و للُعب الأطفال و لأواني الشراب و الأكل و
صناديق الكتب الضخمة التي استجلبها الحجاج عند عودتهم من أداء الفريضة.... و للضيوف الذين كنا نتطلع إلى قدومهم من أجل أن
نشبع هذا اليوم من لحم الضأن... المتميز.... الذي يُغير فيه الأب على قطيع الغنم المتوسط
الذي يمتلكه من أجل إطعام ضيفه المكرمين.... ( و نعتوا بمفرد كثيرا فأوجبوا الإفراد و التنكيرا)..
الوقت ما بين الساعة
الخامسة و الساعة السابعة مساء مشحون لدى كل أفراد الأسرة من أجل إعداد المائدة
الرمضانية... تحرك أخواتي بالتناوب ذلك القرب ( الشكوة) الذي يمخض فيه اللبن من
أجل استخراج الزبد... يقوم أخي بإيقاد الفرن الصغير و تسخين الماء من أجل إعداد
الشاي.. و تقوم أمي بإعداد الشراب و الأكل بروتين معين يجعل كل شيء جاهزا قبل رفع
الآذان من مسجد القرية... لم يكن وقتها آذان الراديو مُعتبرا...
لجنة مراقبة الأهلة تجد
من الصعوبات ما جعلها مثار جدل كبير لدى رجال الدين.... ربما ما زالت جيوب من هذا
الجدل قائمة في بعض المناطق النائية...
كان علماء الوقت غير "منزوعي
المخالب.." فالسلطة الإدارية تتغاضى
عن اجتهاداتهم... لا تريد الاصطدام بهم..
يدرك هؤلاء الإداريون
الذين تخرجوا للتو من مدرسة الإدارة أن هنالك خصوصيات لكل مجتمع و لكل فئة....
يدركون أن عمل الإدارة شيء و الرأي الفقهي شيء آخر....
قلَ أن تجد عالما يقبل أن
تفتح المدرسة النظامية في حيه... لقد شنها بعضهم حربا لا هوادة فيها ضد (
المدرسة)... كنت يوما ضحية لتجاذُبات من هذا القبيل.... عندما أصر الشيخ محمدو,
ابن عم والدي الذي يكبُره سنا على أن يسحبني من المدرسة النظامية و يرسلني إلى المحظرة
القرآنية.... لم أكن في البداية مرتاحا لهذا القرار... ولم تستمرَ القطيعة مع
الوسط المدرسي طويلا... و ليتها استمرت..... عند عودتي من المحظرة دخلت ذات القسم
مع زملائي الذين تابعوا دراستهم النظامية.. ثم اختصرت الطريق في السنة الموالية
بأن تقدمت للمسابقة من السنة الخامسة.... نجحت متفوقا, نسبيا..
كان الصيام من الهواجس
التي تراودني.. أردت مرة أن أستبق الأحداث.. أن أصوم قبل البلوغ... في أول يوم من
هذه التجربة أرسلني أحد الشيوخ في حاجة له مع ابنه الذي هو في سني.. و كان مثلي
تماما, يجرب الصوم قبل البلوغ... قضينا يوما في حي الأفاضل ( انيفرار) أو نصف يوم
على الأصح... و في طريق عودتنا لم تسلم منا بعض المزارع التي نضج بطيخها..كان
أهلها قد تركوها و عادوا للحي من أجل إعداد الفطور... تناولنا بطيخات طريات.. و
بقي أثر البطيخ في أيدينا و أفواهنا... حاولنا بشتى الوسائل أن نزيل ذلك الأثر
عنا.. لا وجود للماء هنا... افتعلنا العطش و بادرنا بالقدوم إلى البئر.. كانت بحوض
المياه بقايا من الماء... أزلنا آثار البطيخ.. و لكن شقيقتي الكبرى لاحظت, عندما
قدَم الشراب على مائدة الإفطار أنني لم أكن شديد العطش... تناولت التمر و شربت
قليلا... ثم خرجت إلى المسجد...
قالت لأمي: لا أراه قد
صام اليوم كله.. و إلا لوجد من العطش ما وجدناه... لم تكن لتصرِح لي بتلك التهمة..
لأنها تعرف وسائل الإقناع التي أمتلكها.. وسائل إقناع لا تخلو تارة من العقوبة
الجسدية... كان لديَ من وسائل الإقناع ما أستطيع به أن أقنع المجلس الدستوري في
بلادي أن مجلس الشيوخ الذي انتُخب سنة 2006 و كان من المفروض أن يتم تجديد ثلثه
بعد سنتين من ذلك.. أن مأموريته لم تنته بعد...! لم تنته لأنه حتى الآن لم يجدد
ثلثه الأول.. وسائل إقناع هامة... أستطيع أن أشرب إناء المذق بالكامل... عدت من المسجد..
فقالت لي أمي: " لقد كلفت نفسك عناء الصوم... و ها أنت عجزت عن الشراب..... و
ربما لا تجد شهية الأكل...." كانت تريد أن تجسَ نبضي... كانت أختي تضحك من
كلامها.... و لكنها لم يكن بوسعها أن تصرح باتهامها لي.... ترك ضحكها شيئا في
نفسي... ليس من الصعب أن تعرف انطباع البنت إذا تحدثتَ مع أمها... قلت لها إنني
بصراحة أريد أن أجرب صيام الليل بعد صيام النهار.. بل إنني على مذهب أبي الذي كان
يقول لنا إنه لا ينبغي للإنسان أن يشرب إلا إذا كان عطشا أو يأكل إلا إذا كان
جائعا... و أنني, في الحقيقة خلال اليوم كله لم أشعر بالعطش و لا بالجوع... قلت
ذلك و أنا أمد يدي إلى بقية تمرات ما زالت في الطبق.. و أنظر إلى القدر الذي بدأ
ينضج.... لا شك أن أخي الذي يعِد الشاي الآن سيتردد في مناولتي قدح الشاي.. لأنني
لم أعد بعدُ من الشَرب المعترف بهم في الأسرة... عاجلته بالقول: " أشد ما
وجدته في الصوم اليوم هو دوخة الشاي..." ضحك أبي ملء فيه و قال: " لن
تجد الدوخة بعد اليوم"! كان يصعُب علي أن أفهم قصده بذلك.. هل هو من باب
الوعد أم الوعيد.. لا شك أن الإنسان الذي أحس بالدوخة في اليوم الأول قد لا يجدها
في اليوم الموالي... و لكن.. قد يقصُد أبي بذلك أيضا أنه لن يسمح لي بصيام يوم
آخر.. و حتى لو لم أصم.. فإن الشاي لن يُعد في البيت قبل الليل...
إنه ليصعب فهم كلام
الشيوخ ذوي التجربة الهامة...
خطاب أبي كان يحتاج إلى
شرح مثل خطاب النعمه ( غير التاريخي).. هنالك خطابان في النعمه أحدهما خطاب النعمه
التاريخي في عهد معاوية ولد سيد أحمد الطايع و خطاب غير تاريخي في عهد محمد ولد
عبد العزيز...
لقد أصر في هذا الخطاب
على الاستغناء عن خدمات هذه الغرفة البرلمانية.... شرح الوزراء الخطاب... استشاط
الشيوخ غضبا...
كان الشيخ يرسل خرزات
سبحته و ينظر في وجهي على ضوء شفق صار يختفي شيئا فشيئا مغطيا الرمال الذهبية التي
تشكل عقدا لؤلئيا حول البئر القديمة.. مؤذنا بزحف وشيك على معالم القرية
الوديعة.... يشبه ذلك الزحف إلى حد كبير هذا الزحف الذي يقوده الصلع في رأسي الأشيب...
تضاريس الرأس بدأت تغزوها
عوامل التعرية التي حدثنا عنها ذلك الأستاذ الفلسطيني محمود الحيح... لقد كان
أصلع... ضليع الفم.... جهوري الصوت... قوي الشخصية...
مرت تسع سنوات بعد أن رسم
لنا شجرة الخلفاء الأمويين على سبورة في القاعة 14 من ثانوية روصو.. و عندما
امتلأت السبورة لجأ إلى الكتابة على الجدار... و بعد هذه الفترة وجدت تلك العبارة
ما زالت مرسومة على الجدار... كما رسمها محمود الحيح.... ( عبد الرحمان الداخل,
مؤسس الدولة الأموية بالأندلس..).
يتميز هؤلاء المشارقة
بحسن الخط... قد يكون لديهم نقص في منهجية التدريس.. و لكنهم يحسنون السيطرة على
القسم...
أتذكر زميله و مواطنه
محمود السعدي الذي كان يلزمنا بإحضار ماء بارد في حصته المسائية... فيذهب رئيس
القسم إلى مطعم الثانوية و يحضر له ماء مشعشعا بالثلج... في أحد الأيام كان الإناء
يحوي بعض التوابل.. فشرب الأستاذ كشراب الهيم.. و لكنه سرعان ما أحس بحرقة
التوابل... فرمى الإناء و صرخ في وجه ( كلاص ليدير).. هكذا كنا نسميه... لم يكن
يقصُد إيذاء الأستاذ و إنما شاءت الأقدار أن يثير ذلك التصرف غضبه....
الأستاذ العراقي ليث,
أستاذ الرياضيات... صرخ في وجهي مرة
قائلا: " القامة قامة نخليييه و العقل عقل عنزيييه" لقد أثرته من ضحكي
من كلام أحد الزملاء بجانبي يردد:
إذا رأيت نيوب الليث
بارزة فلا نظنن أن الليث يبتسم..
شرد بيَ التفكير بعيدا...
لم سمى هؤلاء البصريون وليدهم باسم ليث... هل كانوا يدركون أن أنيابه ستكون
(بارزة)...
قيل لأحد الأعراب: "
لم تسمون أبناءكم بأسماء متوحشة؟" فردَ: " إننا نسمي أبناءنا لأعدائنا و
بناتنا لأنفسنا..."
ضحكت أم الفضل, شقيقتي,
عندما رأتني في صباح اليوم الموالي أحتسي شربة من العصيد بالحليب.. تركها المسحرون
البارحة من قبل أن يتبين الخيط
الأبيض من الأسود من الفجر....
احتسيت الشربة قبل الذهاب
إلى محظرة شيخنا بمب ولد باب. رحمه الله, و لكنني صُمت بقية يومي لأنني قضيت اليوم
مع بعض الصائمين و الصائمات و نحن في لعبة ( السيكَ)... التي يقتل بها الصائمون
وقتهم هنا في منافسة شرسة...
تبرع النساء في هذه
اللعبة, خاصة ما يتعلق منها بتدبير النقاط المُتحصل عليها....
نقطتا ( الحمار) اللتان
ترجعان الأربع... تحمل من الشحن اللغوي هنا ما تحمله... قيل إن هناك إحدى القبائل
التي يحرجها ذكر هذا الحيوان.... العنيد...
أحيانا يسمونه ببعض
الأسماء أو أسماء الصفات....
طريقة مشهورة في هذا
الوسط الإيكَيدي حيث يوجد ( محذور) عند كل قبيلة أو فئة...
صار ذكر الصيام في ذلك
العام من المحذورات لديَ عندما أجلس في العشيِ إلى جانب أبويَ و هما يُفطران على
الأسودين قبل أن تتنوع الموائد في مجتمعنا....
وجبة الإفطار صارت تأخذ ألوانا أخرى متعددة...
يسير مجتمعنا في تقليد
الوجبات بمتتالية هندسية...
لاحظ لي يوما بعض
الإعلاميين أن جيلنا عاش أربع حيوات ( جمع حياة).. فقد عاش البداوة على أشدها و
عاش حياة القرية على عفويتها و عاش المدينة بتعقيداتها...
قضية لا تتأتى لمن وُلد
بين أربعة جدران و عاش بينها... و سينهي حياته بينها....
لقد تكيفنا مع مقتضيات
المدنية الحديثة... و لكن رواسب معينة من البداوة ما زالت تلاحقنا...
قطعان الإبل داخل عاصمتنا
خير شاهد على ذلك... داخل عاصمة تستضيف القمة العربية على جلالتها.. و تتهيأ لذلك
بكل ما أوتيت من قوة.......
رمضان كريم..... و ربنا
هو الأكرم...
شفيق البدوي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق