تطل علينا في هذه الايام الذكري العاشرة لوفاة الرئيس المؤسس للدولة الموريتانية الحديثة الاستاذ المختار ولد داداه تغمده
الله برحمته الواسعة و أسكنه فسيح جناته وبهذه المناسبة الأليمة سأحاول
هنا - من باب ذكر محاسن الموتى - نقل بعض المواقف التي شاعت في تلك الفترة
من سير إداراتنا.
انقل
هذه المواقف بتصرف بسيط راجيا أن يتولى الباحثون المهتمون بالموضوع الكشف
عن جميع ما لم يكتب حتي الآن عن محاولات تكريس مبادئ وقيم المرفق العمومي
بين المسؤولين و أصحاب القرار خلال فترة وضع أسس دولتنا. كما أرجو أن يساهم
جمع و نشر هذه المواقف في بث ثقافة مدنية لابد منها لدعم دولة القانون. تبني الدول بأفكار و سواعد الجميع و يعرف رجال الدولة بالنهوض بالشأن العام و الالتزام بالمبادئ السامية و التضحية من أجلها.
لقد سخر الله لبلادنا رجالا و نساء من هذا النوع كان في مقدمتهم جيل البناة لموريتانيا الحديثة المؤطرين من طرف الرئيس المؤسس المختار ولد داداه.
كانت المهمة صعبة تتطلب تكامل مواصفات القيادة من كفاءة و حنكة و نزاهة و عزم و حزم وصرامة و ليونة عند الحاجة و ثقة في النفس و قناعة بالمشروع ووضوح في الرؤية و مسؤولية عالية.
حاول الرئيس أن يتقاسم هذه المبادئ و هذه القيم مع كبار معاونيه و أن يجعل منها سلوكا يحتذي به الموظفون مهما كانت مستوياتهم و يدركه المواطنون في كل وقت. يتجلى ذلك فيما يرويه عنه من عاصره.
ما في المدينة أحوج منا اليك يا بداه
في احدي مراحل التصادم بين التيارات المتزاحمة في أروقة السلطة اقترح البعض أن تتم مراقبة مضمون خطبة الإمام بداه يوم الجمعة للحد من نبرتها الناقدة لنظام الدولة و المجتمع.
تقرر أن يعقد اجتماع يضم الرئيس و الامام و بعض كبار مسؤولي القطاع المتحمسين لهذا الاقتراح.
بادر الامام بداه برفض أي تدخل في مضمون خطبه و أشار الي نيته تلبية دعوة تلقاها للإقامة في دار هجرة الرسول عليه الصلاة و السلام. هم البعض بالدخول في نقاش حول القضية لكن الرئيس سارع بالقول: أنت تعلم حالنا و أنت بين ظهراننا تخطب و توجه فكيف بنا إذا ذهبت عنا. و الله يا بداه ما في المدينة أحوج منا إليك. قل ما شئت متي شئت و كيف شئت جزاك الله خيرا.
الدولة تستمد قوتها من احترام العدالة
- تم توقيف احد ضباط الأمن علي خلفية تقديم شيك بدون رصيد لأحد التجار و تم اعتقاله في انتظار إكمال إجراءات التحقيق معه. علم الوزير الوصي أنذاك بالأمر وأرسل من يطلق سراحه.
استدعي الرئيس الوزير المعني و قال له بنبرة فيها تأنيب: كان بوسعك ان تطلب باسم الإدارة حرية مؤقتة مع تقديم الضمانات الضرورية أو السعي في تسديد المبلغ المطالب به بدل خرق و تعطيل المسطرة القضائية؛ إنك تشرف علي القوة التي تضمن تطبيق القانون و تنفيذ الأحكام ولا ينبغي أن تكون في وضعية مخلة بهذه المهمة. إن الدولة تستمد قوتها من احترام القانون و قوة العدالة.
- وقعت جريمة في مكان ناء من الوطن و كان لابد من انتقال قاض التحقيق للمعاينة. قام القاضي بإصدار أمر تسخير للطائرة الوحيدة الموجودة في ذلك الوقت. اعترضت شركة الخطوط الجوية الوطنية متذرعة بالتزامات حيال زبنائها و برحلة رئاسية مبرمجة.
عندما طرحت القضية علي الرئيس المختار لم يتردد في الأمر بتنفيذ التسخير الصادر عن القاضي.
قرارات الدولة مستمرة
أعد الوزير قرار ترقية لبعض الضباط تبين بعد نشر القرارأنه أعد في ظروف لم تكن مواتية.
فضل الرئيس عزل الوزير المسؤول عن قرار الترقية بدل الرجوع في القرار لتأكيد مبادئ ضرورية لاستقرار الدولة :
القرارات الإدارية تترتب عليها حقوق للأفراد و تحصن بآجال قانونية
القرارات تؤخذ باسم الدولة و تبقي مستمرة ما لم تغير بالطرق العادية
الأشخاص مسؤولون عن قراراتهم.
ولاء الموظف للدولة وحدها
وقع خلاف بين مجموعات قبلية في الجزء الجنوب الغربي من البلاد و تم الٍاتفاق بعد حين علي تنظيم لقاء للتصالح بين القبائل المعنية. استغل أحد المسؤولين السامين منصبه و قام ببث بلاغ عن طريق الإذاعة الوطنية حول اللقاء المرتقب يستدعي فيه أفراد المجموعات.
كان يوجد من بين المدعوين حوالي 200 موظف.
صدرت الأوامر بمعاقبة جميع الموظفين الذين حضروا اللقاء بسبب المشاركة العلنية في نشاطات قبلية و فئوية و تمت إقالة المسؤول صاحب البلاغ.
العهد الذي يجمعنا هو احترام المال العام
تم اعتقال مسؤول سام في الدولة بسبب اختفاء مبلغ حوالي 80 ألف افرنك افريقي أنذاك من ميزانية كانت تابعة له. تحركت مجموعة من زملائه و من أعيان المدينة للإفراج عنه. طلبت المجموعة لقاء الرئيس و كان من بينهم موظفون سامون و تم اللقاء.
كانت مداخلات الجميع تصب في قالب واحد: المعتقل شخصية معروفة و مسؤول لا يليق اعتقاله.
استمع الرئيس الي الجميع و عندما انتهي آخر المتكلمين التفت الي بعض الموظفين الحاضرين و قال : لقد قلت لكم مرارا إنه لا يمكن للموظف ان يجمع بين الخدمة العمومية- و ما يصاحبها من ممارسة للسلطة و الاستفادة من امتيازاتها- و جمع المال و إن العهد الذي بيننا هو احترام المال العام.
المال العام لحل مشاكل البلاد
في بداية سبعينيات القرن الماضي انتهت مهمة أحد سفرائنا لدي إحدى دول الخليج و استقبل من طرف الأمير لوداعه. في نهاية المقابلة سلم للسفير ظرف و هدايا. عاد السفير الي بلاده وبعد أيام تم استقباله من طرف رئيس الجمهورية و قدم تقريرا مفصلا عن مهمته مرفقا بالظرف و الهدايا. سأل الرئيس عن محتوى الظرف فقال السفير إن به شيكا بمبلغ 70 ألف دولار و هو مبلغ معتبر في ذلك الوقت. نادى الرئيس مدير ديوانه و أعطاه الظرف قائلا له: احتفظ بهذا الظرف عندك.
بعد فترة ضرب الجفاف البلاد و اجتمعت الحكومة لتدارس الوضع و قررت إطلاق برنامج تدخل سريع لمساعدة السكان المتضررين من الجفاف و إنشاء صندوق لهذا الغرض. قبل نهاية الاجتماع طلب الرئيس من مدير ديوانه إحضار الظرف الذي كلفه بالمحافظة عليه و أعطاه لوزير المالية قائلا له: يبدأ الصندوق بهذا المبلغ.
الدولة لا تسلم أبناءها...
ودع الرئيس أعضاء الحكومة و اتجه رفقة الوزير المكلف بتسيير الشؤون الجارية مدة غيابه الي سلم الطائرة و قبل ان يبدأ الصعود أخرج ملفا و سلمه لهذا الأخير قائلا له: هذه قضية تعنيك بالخصوص و دخل في الطائرة و أشار بالتحية للجميع.
عادت الشخصيات السامية الي منا زلها. لكن الوزير توجه ، بعد ان اطلع علي مضمون الملف، الي مكتبه مباشرة.
كان الملف عبارة عن مجموعة من وثائق استخباراتية تفيد بوجود موريتاني من بين المتهمين في محاولة تغيير الحكم في دولة صديقة علي التراب الوطني و كذلك رسائل من سلطات سامية في هذه الدولة تطالب بتسليم هذا الشخص.
بدأ الوزير الإجراءات العادية: استدعى مدير الأمن و قائد الدرك و طلب منهما تحديد مكان الشخص المعني . لم تنقض فترة حتى وردت رسالة من إحدى فرق الأمن تؤكد وجود المعني في بوادي إحدى مقاطعات البلد.
فكر الوزير كثيرا لكنه لم يطمئن الي هذه الوضعية. استدعي أحد معاونيه ذوى الخبرة و الكفاءة و كلفه بمهمة خاصة. في اليوم الموالي تهاطلت على شبكة الربط الإداري رسائل من جميع فرق الأمن تنفي بشكل قاطع و جود المتهم علي التراب الوطني.
هيأ الوزير ملفا كاملا عن الموضوع و قدمه للرئيس عند عودته لكن بعض عناصر الشبكات الموازية كان قد سبقه و أبلغ الرئيس معلومات منافية لما في تقرير الوزير و هو ما نقله الرئيس للوزير. أجاب الوزير علي الفور: سيدي الرئيس عليك أن تختار بين عمل مصالح الدولة ممثلة في الوزارة و إداراتها المتخصصة و مصادرك الأخرى.
بعد فترة ألمح الرئيس في حديث جانبي مع الوزير إلى نجاحه في المهمة التي كلفه بها لأن الدولة لا تسلم مواطنيها.
... ولا تتخلى عنهم
تم اعتقال مواطن موريتاني في إحدى الدول الافريقية علي خلفية ضلوع في عمليات تهريب تعرض صاحبها للإعدام في هذا البلد. انتهز الرئيس المختار فرصة لقائه برئيس الدولة المعنية و طلب منه تسليم ذلك المواطن.
كانت القضية في غاية الإحراج فالدولة قريبة عهد بانقلاب عسكري تعهد أصحابه بالقضاء علي جميع أنواع التهريب و التخريب في دولتهم والرئيس المختار له وزن ثقيل في القارة ويصعب عدم تلبية طلبه.
اجتمع المجلس العسكري لنقاش الطلب وطال الجدل حول مختلف الصيغ التي تتوفر لتفادي تسليم المطلوب. أًصر الرئيس المختار علي طلبه وفي الأخير ارتأى المجلس أن يترك لرئيسه اختيار الصيغة المناسبة. سلم الرجل للسلطات الموريتانية و عاد إلي وطنه.
نسبة الطموح تتحكم في مستوى الصعود
في منتصف سبعينيات القرن الماضي وفي مساء يوم من أيام سبتمبر خرج الرئيس المختار من مكتبه متأخرا كعادته و اتجه صوب منزله الواقع خلف مكاتب الرئاسة. كان يصحبه كل من مرافقه العسكري و وكيل دركي يحملان بعض الملفات.
كان الجو مثقلا بمزيج من الحرارة و الرطوبة كما ان التأخر في العمل مما تتطلبه معالجة الملفات المتشعبة و المعقدة أحيانا زاد من ظهور علامات التعب علي مرافقيه. لقد تم في هذا اليوم القيام بإعادة تنظيم للحكومة أنشأت بموجبه وزارات دولة تتبع لها وزارات عادية.
أراد الرئيس أن يلطف الجو و أن يمازح مرافقيه و سأل ببساطة: كيف حالكم وما هي الطوارئ اليوم ؟
أجاب المرافق العسكري بنفس البساطة : ليس هناك جديد إلا أن الدركي فلان هذا قال إنكم انشأتم اليوم وزارات يمكن للجميع توليها وأنه هو يمكن أن يكون وزيرا صغيرا
ابتسم الرئيس المختار و أجاب علي الفور وهو يودعهم عند مدخل المنزل: لقد حال دون ذلك جمل الفلانيين
لم يفهم المرافق العسكري لكنه رأي الدركي يغالب الضحك وأديا التحية و خرجا.
في طريق العودة فاتحه الدركي قائلا: إن الرجل يتمتع بذاكرة جيدة و علي إطلاع واسع. لقد أرسلني أهلي منذ بضع سنين الي المدرسة الابتدائية في المدينة ولكني لم أكن أرغب فيها و كنت أتحين الفرص للفرار منها و ذات يوم جاء رجل من القبيلة التي أشار اليها الرئيس و ترك جمله خارج المدينة و دخل لشراء بعض حاجياته, عندها غافلته و أخذت جمله و هربت به عن المدرسة.
الضيف يحتفظ باخر ما لقي
في بداية السبعينيات من القرن الماضي لم يكن بالإمكان وصول طائرات كبيرة الى مطار نواكشوط. كانت الوفود القادمة إلى بلادنا تحط في داكار عاصمة السينغال لكي تصل نواكشوط عن طريق السيارات مرورا بمدينة روصو و تكون العودة بنفس الطريق.
بعد نهاية مقابلة مع وفد صحفي قادم من الشرق التفت الرئيس المختار إلى الصحفي الموريتاني المنتدب لمرافقة الصحافة الأجنبية و سأله: هل اكتملت كل الاجراءات لضمان سفر الضيوف ؟
أجاب الصحفي الشاب : نعم لقد هيئت السيارة و أبلغت السلطات الإدارية
أخذ الرئيس الهاتف و قال: السلام عليكم أخليل و هو لقب كان الرئيس يخاطب به الوالي أنذلك "علاقتي بأهل مونكل تجعلني حريصا ’اعل عنهم ما ينتفش مع الخطار’". أكد الوالي أنه تم اتخاذ كل الإجراءات لضمان عبور الوفد في الوقت.
التفت السيد الرئيس إلى الصحفي الشاب و قال له واضعا يده علي كتفه بلطف: تذكر يا ولدي أنه مهما لاقى الضيف من حفاوة و إكرام خلال مقامه فان اللحظات الأخيرة هي الأهم.
محمدن ولد حامد اداري مدني
نواكشوط اكتوبر2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق