30 مارس 2012

الجيش في الديمقراطيات الوليدة.... الأمل و الخطر.. بقلم: الدكتور: السيد ولد إباه.


الدكتور: السيد ولد إباه.
خلف الانقلاب العسكري المفاجئ الذي وقع الأسبوع المنصرم في مالي بغرب أفريقيا هزة حادة في القارة السمراء التي كانت تتصور أنها كرست القطيعة مع عهد الثورات العسكرية.
كانت مالي تقدم دوماً في أفريقيا بأنها النموذج الأبرز للتحول الديمقراطي الناجح في القارة منذ الانتفاضة الشعبية التي أسقطت الجنرال موسى تراوري في مارس 1991. عرفت البلاد تجربتين ناجحتين في التناوب السلمي على السلطة، وشهدت استقراراً سياسياً ملحوظاً وحققت مكاسب نوعية في التنمية الاقتصادية.



السبب الرئيس للانقلاب العسكري كان هزيمة الجيش المالي في حربه مع المتمردين الطوارق الذين سيطروا بصفة شبه كاملة على منطقة الشمال الواسعة (إقليم ازواد الفسيح الذي يتوسط المجال الحدودي المشترك مع النيجر وبوركينا فاسو).
ومن السابق لأوانه استشراف الوضع المالي الراهن الذي لا يزال مضطرباً، ومن غير المؤكد أن ينجح الانقلاب العسكري الذي قوبل برفض داخلي وخارجي عارم. بيد أنه من البديهي أن هذا الحدث سيكون له أثر مكين على طبيعة الأوضاع السياسية الأفريقية في اتجاهين محوريين:حالة التجربة الديمقراطية التعددية وتركيبة الدولة القومية.

ما يهمنا في هذا الحيز هو تأثيرات المشهد المالي في المجال الساحلي – الصحراوي الذي تنتمي إليه أربعة من بلدان المغرب العربي (ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا) وتتأثر به عموم الدول العربية الأفريقية.

إشكاليتان محوريتان مترابطتان تنتظمان التحديات المطروحة راهناً على المجال الساحليالصحراوي هما: منزلة المؤسسة العسكرية في مسار البناء الديمقراطي، وعلاقة الدولة بالمجتمع في تنوعه القومي والسياسي.

بخصوص الإشكالية الأولى، يتعين التنبيه إلى أنه رغم الإجماع القائم على خروج المؤسسة العسكرية من دائرة السلطة، إلا أن الجيش تدخل في السنوات الأخيرة في الحقل السياسي عبر مسالك ثلاثة متمايزة هي :

- إصلاح وتسديد المسارات الديمقراطية المتأزمة والقاصرة. بدأت التجربة في موريتانيا عام 2005، وتكررت في عدة بلدان في غرب أفريقيا (غينيا والنيجر ..).يتمثل هذا المشهد في توافق منظم ما بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية على إدارة المرحلة الانتقالية من الأحادية الاستثنائية الى الديمقراطية التعددية مع ضمان حياد السلطات العسكرية في الصراع السياسي.

- احتفاظ المؤسسة العسكرية بدور ضابط وموجه في القرار السياسي، كما هو المظهر البارز في التجربة العسكرية منذ اعتماد التعددية الحزبية سنة 1989. ومن الجلي أن هذا الدور يتعرض اليوم لامتحان عصي في أفق الانتخابات التشريعية المتوقعة في شهر مايو القادم.

- اضطلاع المؤسسة العسكرية برعاية وحماية التجربة الديمقراطية، كما هو المشهد الجلي في التجربة التونسية.

فالانقلاب العسكري المالي الأخير شكل تحولاً بارزاً في اتجاه مواكبة المؤسسة العسكرية للحركية الديمقراطية، على الرغم أن القيادات العسكرية العليا لم تشارك في الانقلاب ولم تدعمه.

الانقلابيون الماليون برروا تمردهم بالتذمر من "الديمقراطية الضعيفة والمتخاذلة"وليس من غياب الديمقراطية أو اختلالها. وما عناه الانقلابيون هنا هو أن نظام التعددية السياسية أضعف اللحمة الوطنية وأفضى إلى تفكيك هياكل الدولة وعرض البلاد للتقسيم. ومن المعروف أن هذا الخطاب الشعبوي يبرز دوماً في لحظات التأزم السياسي، وغالباً ما يفضي إلى العودة للاستبداد والقمع باسم تحصين المجتمع من التآكل والانهيار.

وهنا مكمن الإشكالية الثانية التي تتعلق بعلاقة الدولة والمجتمع. فمن الجلي أن التجارب الديمقراطية مهددة بالإخفاق في حالة عجزها عن إدارة علاقة المجتمع بالدولة، سواء تعلق بالمجتمع في مفهومه الكلي الأوسع (الأمة) أو بمفهومه السياسي الضيق (المجتمع المدني الذي يشمل مكونات الحقل السياسي).

وما تبينه التجربة المالية هو عجز البناء الدستوري- المؤسسي للنظام الديمقراطي من استيعاب التنوع الاجتماعي، الذي يتمحور حول البنية القومية المتعددة التي يتشكل منها النسيج الوطني للأمة المالية.إنها ليست حالة استثنائية في المجال الساحلي – الصحراوي الذي يتميز بتعقد بنيته العرقية والقومية، وتنمو فيه نزعات انفصالية أبرزها النزعة الطوارقية التي حققت اختراقاً متزايداً في الأشهر الأخيرة.

ومن الجلي أن إدارة هذا التنوع القومي والثقافي يقتضي بلورة أدوات ونظم قانونية وإجرائية جديدة، بدل الاكتفاء بالنموذج المستمد من تجربة الدولة الوطنية الأوروبية التي تتناسب فيها الهوية القومية والهوية السياسية (أي بين مجموعة الانتماء والمجموعة التعاقدية).

من هذا المنظور، يتعين التمييز بين مقتضيات الانتماء للأمة التي تتجاوز حدود الكيان الوطني (المجال القومي المتصل في ما وراء حدود وهمية في الغالب) ومقتضيات المواطنة داخل تخوم الكيان الوطني. فالدولة هنا لا تحتكر صياغة الهوية الذاتية للفرد، كما أنها لا تتمتع بالسيادة القانونية، وليست الفاعل الأوحد في الشأن العمومي الذي تتقاسمه مع السلطات الأهلية المتنفذة.

إن هذا التحدي هو المطروح حالياً في الحالة الليبية، بعد بروز نزعات انفصالية وانكفائية على أساس الخصوصيات القومية والمناطقية، في الوقت الذي تتباطأ وتيرة استعادة وترميم الهياكل المركزية للدولة.

وحتى في بلدان المنطقة، التي لا تشهد سيناريوهات مماثلة، تبرز الحاجة إلى الاعتراف بحالة التنوع الثقافي والقومي الذي يشكل تجاهله والتنكر له خطراً على هوية الدولة واستقرارها.

ونلمس هذا الوعي حاضراً بقوة في الدستور المغربي الأخير الذي نص لأول مرة في تاريخ المملكة على حقوق التنوع الثقافي لسكان المغرب، بالنص الصريح على المكون الأمازيغي وعلى الحالة اللغوية والثقافية للمجال الحساني (أي الناطق باللهجة الحسانية)، مع الأخذ بنظام الجهوية الموسعة بديلاً عن الإدارة المركزية للدولة.

تواجه الدولة الساحلية الصحراوية إذن رهانات إعادة التأسيس الديمقراطي بعد عقدين من محاولة استنبات النظام السياسي التعددي. ويشكل الانقلاب المالي نذيراً سيئاً على حالة عجز الديمقراطيات الضعيفة عن حماية النسيج الوطني في تنوعه وتعدد مكوناته. وبطبيعة الأمر، لا يمكن للانقلابات العسكرية أن تكون خياراً ناجعاً لإنقاذ التجارب الديمقراطية وتسديدها، بل هي مظهر ال
إخفاق الواضح في بناء مؤسسات دستورية وتنظيمية محكمة تحول دون تدخل المغامرين العسكريين في ثوب المخلصين الزائفين..
                                                            نقلا عن موقع برينه.










http://www.bareine.com/forum/images/spacer.gif

أعلى النموذج
أسفل النموذج


ليست هناك تعليقات: