7 يوليو 2014

المذرذره أيام طفولتي....... بقلم الصحفي/ محمد عبد الله بزيد...

عندما كنت أزاول الدراسة في مدرسة "فولانفاه" Folanfant في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي، كانت المذرذره بلدة وادعة يطيب في ربوعها العيش.


كانت تمتد من الشمال إلى الجنوب عبر تل متوسط الارتفاع، تحيط بها مساحات خضراء واسعة شجرت بعناية فائقة وحميت بأسلاك حديدية شائكة.


وفي طرفها الشمالي كان حي "مدينه" Médina وهو نقطة عبور يومي للمسافرين إلى "احسي المحصر" عاصمة الإمارة، التي استعارت منها الولاية اسمها.

وفي هذا الحي الهادئ، كان يقيم بعض أصدقاء الطفولة والدراسة، ك"إبراهيم ديكو"، ذلك الغلام الخجول المسالم، الذي أصبح فيما بعد ضابط جمارك، والمغفور لهما أخته "عيشه ديكو" و"محمدو جنك" الذي التحق بالجيش قبل وفاته.

وهناك أسماء ما تزال ترتبط في ذاكرتي ب"مدينه"، منها أهل جلدي، وقد أصبح ابنهم محمد، وهو صديق من عهد طويل، صحفيا، ثم موظفا في المنظمة العالمية للزراعة FAO.


ومنها مدير مدرسة سابق، السيد "سيني انجاي"، وزوجته "دودو" ووالدتها "انجايا" وإخوتها "دودو" و"دمبا غالو" وبشير ولد جالاغي ومحمد جيل.

وما زلت أذكر "يمبا" Yembae، وهو رجل نحيف سريع الغضب، كان يسكن عند أهل جالاغي. وكان مضرب المثل عند سكان المذرذره في الحرص على متابعة الإذاعات، فمذياعه يظل يتردد دون انقطاع بين محطات الإتحاد السوفيتي وإيران وفيتنام وهندرواس وأثيوبيا وكندا وتنزانيا وغيرها.

لم يكن "ينبا" يتكلم سوى الحسانية، لكن الاستماع إلى الإذاعات، كان بالنسبة له طريقة لإنعاش حصص الشاي اليومية التي كان يبدأها بعد الظهر ويواصلها غالبا حتى السحر.

وبعد اجتياز الأرض البور التي تفصل "مدينه" بباقي البلدة، تواجه المار دور صغيرة من الإسمنت، بنيت بالأسلوب الإستعماري، تحاصرها الكثبان الرملية، وتكاد تعزلها عن المدينة، وهي تستخدم مساكن متواضعة لبعض موظفي ووكلاء الدولة.

وأذكر أنني حملت أياما متتالية إلى إحدى هذه الدور الضيقة محفظة معلمي القديم السيد "سوماريه هاديمو" Soumaré Hadémou، وهو سونينكي من قرية "آر Arr "، أصبح فيما بعد واحدا من أهل المذرذره الحقيقيين.

وقد التقيته عرضا في تكنت أعواما قليلة قبل وفاته، فوجدته بشوشا لطيفا كما عهدته قبل ثلاثين سنة، لم يكد يتغير، كان يحمل في يده كعادته قطعة من "الكولا" Cola ولم يكن قد فقد شيئا من روح الدعابة التي كانت تميزه.

بعد ذلك يبدأ حي الحرس، وهو مكون من دور منخفضة من الطين، تمرح أمامها طيلة اليوم ماعز شرسة ونهمة ..

كانت تعيش هناك بإنسجام كامل، أسر تنحدر من ولايتي آدرار وإينشيري البعيدتين ..

أهل الديك، أهل مكيّه وأهل اهميمد ..

وكان لهم أطفال في سني، يرتادون المدرسة بينهم .. تاري وسيد أحمد والسيدة وآخرون نسيت أسماءهم.

وكانت السيدة بنت الديك فتاة لطيفة ومستقيمة، لكنها كانت مشاغبة ومشاجرة، ولم يكن أي فتى أو فتاة يجرؤ على استفزازها .. وقد التقيتها في روصو عام 1986 بمناسبة زيارة الرئيس معاوية، لولاية الترارزة .. فعرفتني فورا، وتبادلنا الحديث مدة شاي حول ذكريات الصبا بإسهاب وعفوية كما يفعل عادة أصدقاء الدراسة عندما يتلاقون بعد طول فراق ..

وقدّمتني لزوجها، السيد سيدي محمد، وكان يومها واليا للترارزة، وقد اختفى للأسف بعد ذلك بأعوام في حادث طائرة غامض، وقع أثناء رحلة بين نواذيبو والزويرات.

وغير بعيد ينتصب خزّان المياه، وهو أعلى قمة في المدينة الصغيرة .. وكان يطل على حبس المذرذره، وهو بناية كبيرة من الطين شيّدت في نهاية العشرينيات، وأقامت بها شخصيات مرموقة، بينها الشاعر العالم امحمد ولد أحمد يوره .. ولم يكن سجن هذه الشخصية الإكيدية الكبيرة نتيجة اقتراف جرم، أو ارتكاب فعل مشين ..

بل جاء إثر وشاية نسبت له أبيات شعر تحكي بتهكم وسخرية قصة أحد المستعمرين، قتلته المقاومة، ونقل جثمانه على ظهر ثور من شاطئ الأطلسي إلى المذرذره، بطلب من الحاكم ..

وقد أقام بهذا السجن عدة مرات أكبر لصوص القبلة في عقد الخمسينيات "الديقداق Deigdag" لأسباب تختلف بطبيعة الحال عن سبب إقامة امحمد.

ويفتح السجن على مخزن كبير من الحديد الثقيل، لونه أخضر زيتوني، تحفظ في داخله أسلحة وذخائر كتيبة الحرس.

وخلف السجن وبمحاذاة المساحات الخضراء المسيجة توجد بناية شيّدت على طراز الدور الفاصلة بين "مدينه" وباقي البلدة .. وهو منزل أعرفه جيدا .. ظل لسنوات متتالية مسكنا للسيدة خداجه بنت مولود، وهي ممرضة تنحدر من مدينة بوتلميت المجاورة، وتعتبر إحدى أولى القابلات في موريتانيا المستقلة ..

وقد أقمت بهذه الدار مرارا نتيجة الصداقة التي كانت تربطني بابن أخت خداجة، أحمد مسكه ولد عبد الله، المعروف عند خاصته بذي القرنين، وبابنها الصغير المشاغب الشيخ التراد، وبنتها مليكه ..

وأذكر أن خداجة كانت امرأة أنيقة ومهذبة، وكانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، ولم يكن بيتها يخلو من الزوار، وقد ظل عامرا بموائده الوفيرة، وكؤوس الشاي المنعنع التي كانت تدار فيه حتى وقت متأخر من الليل .. وكان البيت موعدا تحرص شخصيات مرموقة من مجتمع المذرذه في الستينيات على التلاقي فيه ..

ففي صالون البيت المؤثث بإتقان، كانت هذه الشخصيات تتجاذب أطراف الحديث، وتتبادل النكات، فتعلو الضحكات المرحة، أو تخلد في استمتاع إلى لعب "البيلوت Belote ".

وأذكر من هذه الشخصيات .. أمير الترارزه احبيب ولد أحمد سالم رحمه الله، وصديقه الحميم شيخ قبيلة تاشدبيت إطول عمره ولد احميد، ومحمدو ولد عبد الله، أحد تجار المذرذره المحترمين، وأعمر ولد أعمر ولد اعلي، وكيل ضرائب وابن عم الأمير.

وعلى بعد مائتي متر من خداجة كانت تسكن شخصية أخرى من شخصيات المدينة .. "سيدي نيانغ Sidi Niang " ممرض بولاري، قضى حياته المهنية كلها في المذرذره .. كان الجميع يكن له الحب والاحترام .. وكان الأطفال الذين لم يبلغوا بعد سن الختان يفرون منه كالطاعون، وكان الأمر يسلّيه .. فيقول لهم مداعبا وقد قطّب حاجبيه .. "موعدنا المستوصف" ..

وقد عرفت لاحقا أن هذا الرجل ينحدر من كيهيدي Kaédi ومن حي "تولديه Touldé " بشكل خاص، حيث يعيش حتى الآن أبناء عمومته، "دياغراف Diagraf " أي أمراء الفلان، الذين يشرفون على تسيير الأراضي الزراعية .. أما امرأته "هاوه Hawa " فسيدة جسيمة فارعة القامة، قليلة الكلام، لا تخرج من بيتها إلا لماما، فأغلب وقتها تستغرقه الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال وقطيع البقر.

ومقابل بيت سيدي نيانغ تقريبا، تنتصب بناية البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، وهي دار ضخمة وواسعة، كانت تستخدم في الوقت ذاته مكتبا ومقر إقامة لمسؤول البريد "علي جيارا Alioune Diara" الذي كانت خدمات البريد في عهده جيدة بل ممتازة ..

كان بالإمكان حينئذ الاتصال بالهاتف بين المذرذره وبين مدن كثيرة في موريتانيا .. بوتلميت، روصو، ألاك، بوغيه Boghé ، كيهيدي، امبوت، المجرية ومقطع لحجار .. مثالا لا حصرا، بل كان بالإمكان التحدث لأشخاص عبر الهاتف يقيمون في سين لوي Saint Louis ، رفيسك Rufisque ، امبور Mbour ، داكار، باريس، الخ ..

وكان هناك عامل نسيت اسمه، يسهر طيلة الوقت الذي تستغرقه المكالمة الهاتفية على إدارة آلة يدوية تنتج الطاقة اللازمة لتشغيل الهاتف .. أما البريد الوارد من داخل البلاد أو خارجها فكان يشرف على توزيعه دون كلل أو ملل، وفق قواعد المهنة ساعي البريد دهابو .. وكان يسكن بيتا يحاذي المدخل الشمالي للمدرسة، وكانت هوايته إصلاح أجهزة الإذاعة والساعات كلما سنح له وقت ..

وكان يشرف بنفسه على توزيع بعض الجرائد الفرنسية على عدد من الموظفين العاملين في المذرذره مثل لوموند Le Monde ، لكنار أنشنيه Le Canard enchaîné ، باري ماتش Paris Match، لوبسرافاتير L’observateur، ليفيغارو Le Figaro ودوريات متخصصة كسيلسكسيون دي ريدرز la Sélection du Reader’s Digest وسيانس إي في Science et Vie ..

ومن بين المشتركين في الجرائد والدوريات في حقبة الستينيات، المرحوم ديالو محمد، عقيد من أهل بوتلميت، درَس بالمذرذره قبل أن يلتحق بالجيش، وأخوه المرحوم عبد الله ديالو، معلم ومدير مدرسة وإداري لا يبارى، قضى نحبه في حادث سير مرعب، و"سيلا آلي Sylla Alley" معلم فرنسية عقدوي، لم أقف له من بعد على أثر، و"هانري ريكيه Henry Riquet " آخر معلم من جنسية فرنسية بقي في مدرسة "فولانفاه" بعد الاستقلال.

وبالعودة إلى السيد عبد الله جيالو، أو عبد الله ولد بلله كما يعرف عند أهل بوتلميت، أذكر أن أخاه إسحاق الذي لم أره من بعد، وابن أخته محمد كونيه Mohamed Koné الذي التقيته مرات قليلة، قد زاولا بعضا من دراستهما في المذرذره، وكانا على قدر كبير من دماثة الأخلاق.

وكانت تسكن غير بعيد من سيدي نيانغ شخصية أخرى من شخصيات المدينة .. "ماديكيه فاي Madéké Faye"، رجل فارع القامة، واسع الجبهة، خفيض الصوت، حاد النظر .. نموذج خالص لمجتمع "السرير Sérére" .. وهو ينحدر من سنغال الأعماق، وربما من الساحل الصغير، تلك المنطقة الرائعة التي ولد في ربوعها شاعر الزنوجية الرئيس ليبولد سيدار سينغور Léopold Sédar Senghor ..

وقضى ماديكيه حياته وهو يجهد في الحفاظ على شبكة الهاتف بين المذرذره وبوتلميت وبين المذرذره وروصو .. وكان عمله المضني يقتضي منه القيام بجولات متكررة على الجمال لتبديل أو إصلاح الأسلاك الهاتفية التي تفسدها عوامل الطبيعة أو نزوات أطفال بداة تعوزهم وسائل التسلية.

كان ماديكيه على درجة كبيرة من الإستقامة والتدين، لا تفوته صلاة في المسجد، وكان همّه منحصرا في رعاية أبنائه، وهم يناهزون العشرة .. صيار Sayar ووالي Wali وعبده Abdou و"مادام Madame " والآخرين ..

وإلى الشرق من هذه المجموعة من الدور، تقع إقامة الحاكم المهيبة، وهي بناية ضخمة يمكن أن نصفها بالقصر، فيها عدة غرف واسعة، يفتح بعضها على بعض .. ويبدو من خلال جدرانها السميكة والصلبة، وما فيها من مستودعات وشرفات ومخازن مياه ومحارس ومغاسل ثياب وملحقات وأبواب حديدية ثقيلة، أنها صمّمت أصلا لمقاومة الزمن، وربما لمواجهة حصار طويل.

وإلى جانب هذا السور الحصين، كان يوجد مكتب الحاكم .. بناية قوية من الإسمنت، يعمل فيها غالبا الحاكم وسكرتيره ووكيل الخزانة.

وفي الطرف الشمالي من فناء بيت الحاكم، توجد دار الضيافة gîte d’étape .. مبنى محتشم، غير معروف لدى أغلب الناس .. وحتى نهاية الستينيات كان بالإمكان الإستمتاع بالتفرج على ما يحويه من دواليب، رتّبت داخلها بإتقان أسرّة قابلة للطي، وأواني وملاءات وحشايا أثاث ومعدات، ورثت عن الإدارة الاستعمارية، وخصّصت لضيافة الموظفين القادمين في مهمات عمل.

وعندما نسلك الطريق الصغير المحاط بشجر "البروزوبيس Prosopis " الرابط بين مقر إقامة الحاكم وبين مركز المدينة، فسنمر لا محالة أمام المركز الصحي القديم، وفيه تعمل إحدى أكثر الفرق الطبية الموريتانية كفاءة وتفانيا في العمل.

كان سيدي نيانغ يشرف على المعاينات والعمليات الخفيفة، بينما يختص جدو ولد يركيت Yargueitt في الحقن والعلاجات الصغيرة .. وكانت خدّاجه بنت مولود تسهر على أمور الحمل والولادة، أما رئيس المركز الصحي، محمد جيل، فيتولى استقبال المرضى وفرزهم.

وكان محمد جيل رجلا حسن الهيئة، فارع القامة، أنيقا وأبيا .. كان سلطويا دون شك، لكن مع استقامة واجتهاد وكرم وتدين .. كان حسن الذوق في اللباس، ويملك مجموعة من الأسلحة الجميلة، وكان بطلا في الرماية، وكان مولعا بالعطور الجيدة، ورحلات الصيد.

كنت أنزل ضيفا عليه أيام الأحد والعطل، فتستقبلني بنته "الطفيله" وأبناؤه شيخاني ودمبه، والمغفور له أحمد سالم، استقبال الأخ والصديق .. وكانت زوجته الأولى واسمها توتو -إن لم تخني الذاكرة- امرأة مميزة وسخية، تأثّر أهل المذرذه جميعا بإختفائها المفاجئ.

وقد أصبح ابنه شيخاني محاميا ثم عمدة للمذرذرة، وهو زميل في الدراسة وصديق في الطفولة، لم تتح لي إلا نادرا فرص اللقاء به .. ومن الغريب أن لقاءنا الأول والأخير منذ غادرنا مدرسة "فولانفاه" تم عام 1995 في مدينة "ملن Melun " بفرنسا ..

كنا كلانا مدعوين لحضورحفل لتخليد توأمات بين مدن لم أعد أذكرها من الترارزة والبراكنة وبين مدينة "سينار" Nouvelle ville de Sénart الجديدة، من محافظة "سين ومارن Seine et Marne " .. وقد جاء هو بوصفه عمدة للمذرذره، وجئت أنا ضمن وفد من تكنت.

وبجوار المستوصف مباشرة يقع المسجد الجامع .. موئل للصلاة والتعبد .. ومن بين معتاديه علماء أجلاء قضوا نحبهم كلهم .. أحمد سالم ولد بيباه (ححام)، أحمد سالم ولد باكا، محمدو ولد العالم، محمد بابا ولد النده، وباقي الجماعة.

كان المستوصف مقابلا لمخازن هي عبارة عن دور متواضعة ومغبرة تعلوها صفائح حديدية مموجة يملكها حسب ما أظن محمدن ولد إفكو .. رجل أعمال ثري من أهل المذرذره.

وأذكر أن محمدن كان رجلا حسن الهيئة فارع الطول له وجه كبير ولحية كثة مرتبة بإحكام على الدوام .. وهو يرتدي عادة دراريع من "المظلّع" الفاخر، وسراويل قطنية سوداء، وقمصان طويلة الأكمام .. وكنت أراه غالبا وراء مقود سيارته "الدي شفو Deux chevaux " يقطع الطريق المؤدية إلى مقر إقامة الحاكم، وأعين الأطفال ترمقه بإندهاش.

وخلف هذه المخازن كانت توجد مجموعة من الدور، تقطن واحدة منها أسرة أهل أجون، سيدينا وأخواته، وبنت أخته اشريفه، وهي صديقة وزميلة في الدراسة، حظيت بلقائها قبل سنوات بنواكشوط، وقد أصبحت أمينة مكتبة.

وعلى الجزء الموازي من الطريق، كانت هناك دار كبيرة من الإسمنت، يقال إن المرحوم الشيخ سيداتي ولد الشيخ الطالب بويا، هو من بناها.

كان لها د رج خشن وأبواب خشبية متهالكة .. وكانت تسمى دار الأشياخ .. وكان من عادتي أن آتي إليها للعب "داري" وللتمرن مع أصدقاء على خربشة سخافات تطفح بالأخطاء الإملائية والنحوية في المساحات الفارغة النادرة على جدرانها الشاحبة.

وإن نسيت فلن أنسى أن دار الأشياخ كانت نقطة إلتقاء .. يتداعى إليها كل مساء أطفال المدينة، حيث ينتظرون الساعات تلو الساعات، وصول الشاحنات القادمة من روصو.

وكان يقود تلك الشاحنات -وهي من مركة سيترويين citroen تي 46 T- سواق مهرة .. جيبي انجاي Djibi Ndiaye ، سك Seck ، مالك، ساليو Saliou ، سعد بوه، العيد، بوي نار Boy Nar، سويد أحد ولد اكريبلي، ابيبيه .. ونسيت البقية ..

وكانت ملكية أغلب هذه الشاحنات تعود لأسرة كبيرة من أهل المذرذره .. أهل ابراهيم فال، خاصة الأخوين .. محمد عبد الحي، وإفكو، وقد بنيا ثروتهما من النقل البري .. وقد سافرت مرارا في هذه الشاحنات بين المذرذره وروصو، وبشكل مجاني.

وما زلت أذكر القرى المتناثرة على جنب الطريق البالغ طوله نحو ستين كيلومترا .. بوزبيله، احسي عبده، الشارات، لكراع الأحمر، احسي أفلجيط، رش النيه، رش زمبتي، رش أهل المرابط، الخمسان، بوندرينان.

كانت الشاحنات تنطلق غالبا في الصباح الباكر، لتصل إلى روصو بين الثامنة والتاسعة صباحا.

وكانت تلاقي صعوبات في شق طريقها، وسط نباتات كثيفة ووافرة .. وكانت هذه النباتات تتشكل في الجزء الشمالي، من شجر القتاد (إيروار)، والسيال (الطلح)، والسَـمـر(السدرة البيظه) والسدر .. أما في الجزء الجنوبي، فأنواع الأشجار المهيمنة هي .. المسيم (تيشط)، والأراك (إفرشي)، والبشام (آدرس)، والأثل (الطرفه)، والثمام (أم ركبه).

ولم يحدث ولو مرة واحدة أن فرض السيدان إفكو ولد ابراهيم فال وأخوه محمد عبد الحي رحمه الله على هذا التلميذ المسكين دفع أجرة النقل .. وفي الحقيقة لم يكونا يطلبان أي شيء من أي أحد، فقد كانا يقنعان بإستلام ما يقبل الركاب المترددون أن يعطوهما إياه لقاء السفر .. وكانا فعلا رجلين كريمين .. والد وعم زميلي في الدراسة الداه ولد ابراهيم فال الذي لم ألقه إلا نادرا، وقد عمل في البنوك حسب ما علمت.

وأذكر صاحب شاحنة آخر من أهل المذرذره .. تياه ولد أحمدو، ابن عم لأهل ابراهيم فال .. وهو رجل متواضع وودود، شبّت النار في شاحنته لدى مخرج روصو، قبالة خليج "باخ" بداية السبعينيات.

يشق مركز مدينة المذرذره شارع رملي واسع، مأهول جدا سحابة النهار، وشبه خال طيلة الليل ..

ويمتد هذا الشارع غربا حتى المساحات الخضراء المسيجة وتتناثر على جنبيه الحوانيت، بدءا بتلك الدار المنخفضة، ذات الفناء الداخلي الكبير، التي تتناثر فيها على غير نسق أو ترتيب مواد ومنتجات طازجة وحبوب مجلوبة من "شمامه" وبحيرة الركيز والبوادي .. الذرة البيضاء، الذرة الصفراء، الدخن، الفاصوليا، الهبيد، الفستق، الدهن، القرب، الأسراج، المناسف، الجلود، الحبال، الخ.

إنه حانوت "يالي"، أحد سكان المذرذره الأوائل، وهو رجل متديّن وحكيم ومضياف .. ويالي هو والد صديق قديم وافاه أجله .. أحمد سالم، المعروف عند الخاصة ب"بيشاله" والدكتور عثمان ولد يالي، أحد الأطباء الأوائل في موريتانيا المستقلة، وعمر ولد يالي، أحد رموز التحالف الشعبي التقدمي، وله بنات نسيت أسماءهن.

ولجاره محمد سيديا ولد ابا دكان جيد التموين، يعرض جميع أصناف البضائع، بما فيها أفضل العطور في تلك الفترة .. "كيكي 44"، "ماتي غي"، "جولي سوار"، "نوستالجي"، "أبانيته" و"دانكومه"،  وأكثر السجائر رواجا حينذاك .. "كرافن آ"، "باستوس"، "كاميليا"، "غلواز" و"جيتان".

وكانت تنافسه متاجر ولد الجيلاني، ومحمدو ولد حامدينو، والد اثنين من زملائي في الدراسة .. محمد والحسن، ومحمد عبد الحي ولد ابراهيم فال، واعلي سالم ولد اعلي والشريف بونا، زوج لاله بنت ابريكه، وسيداتي ولد المعلوم، والد الفتى المحبب والمسالم، بلاه .. وقد التقيت بلاه، على هامش المفاوضات الموريتانية التي جرت في داكار عام 2008 وانتهت بحل الأزمة التي نشبت إثر الإطاحة بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله.

وقد التقينا عند واحد من معارفنا القديمة والودودة في المذرذره، وهو السيد أحمد بزيد ولد البواه، وكان وقتها دبلوماسيا يخدم في سفارة موريتانيا بالسنغال .. وترافقت مع بلاه الذي كنت أراه لأول مرة منذ ربع قرن في طريق العودة من السنغال، إلى أن وصلنا إلى تكنت حيث قضينا يوما رائعا مع ذويه.

وإلى جانب حانوت سيداتي ولد معلوم، كان يوجد دكان العجوز "المراكشي"، وهو مغربي حملته أقداره إلى المذرذره في عهد الاحتلال الفرنسي، وكان المراكشي يتاجر بالجلود والصمغ العربي، يشتري بضاعته محليا بأسعار زهيدة، ليبيعها بربح وافر للتجار اللبنانيين في السنغال ..

ورغم إقامته الطويلة بين أهالي إيكيدي، واختلاطه بمجتمع المذرذره في تلك الفترة، لم يستطع التخلص من اللكنة الأعجمية التي تميزّ سكان مراكش .. تانسيفت الأحواز، كما ظل فك شفرة الثقافة المحلية المليئة بالإيحاءات مستعصيا عليه ..

ولذلك كان سوء الفهم هو الطابع الغالب على علاقته بزبنائه، وأكثرهم من أبناء عم صديقي القديم، اعلي من رحال، الذي لم ألتقه سوى مرة أو مرتين عن طريق الصدفة، عند أصدقاء مشتركين.

وعلى بعد مئات الأمتار من المراكشي، كانت تعيش على هامش المجتمع تقريبا، سيدة اسمها "باسين"  يزعم السكان أن لها قدرات خارقة.

وهناك أخيرا المتاجر الصغيرة، وأصحابها هم .. أحمد دال ولد بابدينا، وبابا ولد الشيخ، وخيرات، ودكاكين أبناء عمي المتواضعة، المغفور لهم .. محمد عبد الحي ولد النيه (النحي)، ومحمد الأمين ولد بشار، وعمي ولد متالي، ومحمد الأمين ولد المصطفى، ودحود ولد المصطفى.

وأمام هذه الحوانيت يتجمع عادة الحمّالة الشجعان، وأهمّهم في تلك الفترة .. ديابل، آمبوها، الزايد ولد ابراهيم، بلخير، امبيريك ولد عبدوت، ابياه ..

وعلى هذا الشارع أيضا كانت توجد مخبزة علي ولد الصبار، وهي مخبزة تصنع خبزا أصفر برّاقا ناعما ولذيذا .. وقد كنت به مولعا .. وكنت كأهل المذرذره أفضله كثيرا على خبز اسويعيد، وعلى الخبز الذي كان يصنعه رجل يدعى الصبّار في مخبزة غير بعيدة من حانوت الحسين ولد بلال الجولي.

وعلي ولد الصبار، هو والد ابراهيم، زميل في الدراسة، عمل فيما بعد في الدرك الوطني.

وكان يشق شمال وسط المدينة، شارع مواز للشارع الرئيسي، على حافته يقع حانوت كبير للسيد أحمد ولد اظمين، وهو تاجر من أهل آدرار .. وقد أتى حريق على حانوته، فتعاطف معه أهل المذرذه، في وثبة تضامن صادق، ولا أذكر تفاصيل تلك المأساة، نظرا لصغر سني وقت وقوع الحادث.

وفي الحي الذي يشقّه الشارع، كانت تعيش أسر ثلاثة من حرس الغابات .. أهل شنّان، الذين لقي ابنهم المختار حتفه أثناء حرب الصحراء، وهو أحد أصدقائي في الطفولة، وكان قويا وشجاعا، وأهل سيد أحمد، أسرة من آدرار، وكانت بنتهم السالكة، وابنهم لمهابه من زملائي في الدراسة.

وأهل محمد سالم ولد زين، الذين شرّف ابنهم محمد عبد الله، مدرسة "فولانفاه"عندما حاز على المرتبة الأولى على المستوى الوطني، في مسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية عام 1965 ..

وبعد دراسات عليا في الإقتصاد، اشتغل هذا الصديق النحيف، الذي يتمتّع بجرأة فائقة، في البنوك، قبل أن يتحول إلى "التبتيب" .. وقد أفلحت بعسر أن أحافظ على التواصل مع هذا "الأبله".

وعلى بعد خطوتين من حرس الغابات، كانت تعيش أسرة "دمبه ديا"، وكان والدها بنّاءا -إن لم تخنّي الذاكرة .. وكان العجوز "دمبه ديا Demba Dia" رجلا سخيا، يلجأ إلى بيته محمد ولد بركه، وبايني Bayenni والنماه وادويدن Douéden وبنت المنها ..

وهم صعاليك، ومساكين لا حامي لهم، يذرعون شوارع المذرذرة طيلة اليوم دون هدف محدد .. وعندما يبلغ منهم التعب مبلغه -بعد مطاردات الأطفال الضارية والقاسية- يلجأ هؤلاء المشردون إلى أهل "دمبه ديا"، فيجدون الحماية والمأوى والمأكل.

وفي الصف نفسه توجد دار "تار ديوب Tar Diop " الكبيرة، ولا أذكر والد "تار ديوب" الذي يقال إنه حارس غابات، أصله من مدينة "سين لوي" بالسنغال، لكنني أعرف جيدا أعضاء أسرته .. كن بوغل Ken Bouguel وكيوه Kewa والمرحوم باي ديوب Baye Diop ..

ووالدتهم، واسمها "مضم" .. كانت صغيرة القامة، نحيفة الجسم، بشوشة وسخية .. وكان من عادة"مضم"، تقديم الأكل لكل من يحضر إلى بيتها وقت الغداء .. شحاذون وقرويون وحضريون ومسافرون جاؤوا من السنغال المجاور أو من أصقاع أخر.

وكان جناح من بيت أهل "تار ديوب" بمثابة مكتب ومقر إقامة لقاضي المذرذره، السيد حامد ولد ببها.

ومن عتبة بيتهم، كان بإمكان أهل "تار ديوب" أن يرقبوا حركة النساء اللائي يرتدن السوق القريب، حيث ينتظرهن الجزارون .. أحمد سالم ولد الصبار، وريحانة، والمولود ولد آمغيرات، وبائع الخضروات الوحيد .. بلال ولد اجيوري.

أما جنوب مركز المدينة، فقد كان يشقّه شارع ضيق، ينطلق شرقا من مستوى دار سيدة عجوز، تعيش بمحاذاة طريق روصو، تدعى عيشة متياره، وهي زوج رجل يسمى امبارك ولد بوحشيشه.

وعلى جنبي هذا الشارع، شيّدت مساكن تعود ملكيتها إلى أسر عريقة في المدينة .. أهل دهابو، ساعي البريد الذي تحدثت عنه سابقا، وأهل معاوية، وهم أبناء عم درَس والدهم رحمه الله في أقصى شرق البلاد، ثم في المذرذره، وابير التورس، قبل أن تتم ترقيته مقتصدا .. وهو والد الإداري ووزير الداخلية السابق، محمد ولد معاوية.

وكان من بين جيران أهل معاوية، ولي الله احماده ولد ابا، وهو شخصية من أهل انيفرار، وأهل بابا سمكه Baba Samaké وكان ابنهم عمر سي، الدبلوماسي الذي وافاه الأجل المحتوم، صديقا لطيفا، وزميل دراسة ..

وما زلت أذكر والدته خديجة، وخاله العملاق "سيدي بي Sidibé " الذي كنا نساومه في صناعة مقاذف الحجارة التي نصطاد بها الطيور، وخالتيه .. زينب، التي أصبحت ممرّضة مساعدة في المركز الصحي بالمذرذره، و"فيتا سمكه"، حرم الدكتور عثمان ولد يالي.

وعلى بعد مائة متر من هنا، كان يسكن أهل محمد ولد شداد، العجوز السالمة بنت أعمر لغنم، وزينب والدة صديقي، محم والنين، والناها، وأحمد الجزار الفكاهي، والداه، الأخ غير الشقيق وهو احد أصدقاء الطفولة القلائل، الذين لم ينقطع بيني وبينهم حبل الوصال، وقد اشتغل في الجمارك.

بعد ذلك يأتي منزل أهل أحمد ولد عبد الله الفسيح، وكان لوالدهم حانوت يفتح على الشارع .. وابنه عثمان السيفر، عند الخاصة، هو زميل دراسة، غاب عن ناظري، وله ثلاث أخوات وأخوان، اللوت، حرم أحمد ولد ابراهيم فال، والفقيدة مناه، وعبد الله، والأم، والأخ الكبير، واسمه محمد، إن لم تخني الذاكرة.

وغير بعيد، يعيش في بيت صغير، بنّاء ماهر ومسالم، محمد ولد غداله Gdala الذي انتهى الأمر بإبنته فاطمة، إلى العمل في الخزانة العامة.

أما جيران هذا البناء فهم أهل الميداح .. الوالد الحكيم محمد، وزوجه التي نسيت اسمها، وبناته، عيشة ومروم وقد تزوجتا شخصيتين كبيرتين من الشرق الموريتاني، وماما التي اشتغلت في إذاعة موريتانيا، وافّو والمعلومة، وكانتا من رواد المدرسة.

وفي الجانب الآخر من الشارع، يعيش أبناء عمهم، أهل أحمدو ولد الميداح، الوالدة بنت أبنو، والأطفال، محمد المعروف عند الخاصة بكحلوش، وهو موسيقار موهوب، وصديق حميم، قضيت معه أوقاتا سعيدة، وخضت وإياه مغامرات خارقة، ولبابه ومشالم ودوينه، الذين رأيتهم يكبرون تحت عطف خاليهم، محمد ودودو.

وفي هذا الحي تعيش أسرتا اثنين من أصدقائي في الطفولة، رمظان ولد طهمان، الذي أصبح ممرض دولة، وقد سعدت بلقائه بعد ذلك، ويركمه ولد آمبوها الذي لم تكتب لي رؤيته إلا نادرا، فجدتا هذين الصديقين سيدتان لا يمكن لأي معاصر لتلك الفترة في المذرذره أن ينساهما ..

فاطمه بنت اسطوله، امرأة محببة، يقال إنها كانت تصنع أحسن عيش في القبلة، واميمانه، وهي جدة مرحة ومحسنة، كانت فطائرها ذات الشكل المدور المرشوشة بإتقان بدقيق السكر، أجمل هدية يمكن أن تقدم لطفل.

وكانت تسكن في هذا الحي سيدة أخرى لا تقل شهرة .. اماشن، التي كانت تنعش جميع الحفلات بطبلها الساحر، وخطبها السردية العصماء.

وبالقرب من أهل أحمدو ولد الميداح، يعيش أهل اجريفين .. محمد وابنته مريم، وأهل اعلي ولد الميداح، وكان والدهم اعلي الشخص الوحيد الذي يتجول في مدينة المذرذره على صهوة جواد، وأهل سيد أحمد، وغيرهم ممن نسيت.

وفي الطرف الجنوبي من هذا الحي الآهل، توجد دار أهل بلال ديولي الصغيرة، والدتهم التي لا يمكن أن تنسى، السالمة ذات الوجه البشوش، التي خدمت أجيالا متعاقبة من تلاميذ القسم الداخلي، وابنتها الهاشمية التي خلفتها، وابناها الكبيران، الحسن والحسين.

أما الحي الجنوبي الغربي، فكان منطقة نفوذ أسر كبيرة، لا تقل شهرة عن الأسر السابقة، أهل ححام .. وكان ابناه، بيباه وجيد، من أعز أصدقائي، وعرفت أيضا أخاهما بده، كانت له بضاعة من علم، وكان ضعيف البنية، وقد وافاه أجله المحتوم، وأخاهما الصغير محمذن بابا ولد أشفغ، صحفي الجزيرة الموهوب، والمشهور محليا أكثر بلقبه "امني".

ومن هذه الأسر أهل أحمد ولد الميداح، الوالد أحمد، والد صديقي طفولتي، الرجاله، الذي كان ينعته عبد الله ديالو بالتعنت، ومحمد، العاقل الرزين.

وبجوار أهل أحمد ولد الميدّاح المباشر، كان يعيش المزارع دييري، وأهل يركيت، محمد التاجر، وجدو الممرض المساعد، ومحمذن فني الإذاعة، وباقي أفراد الأسرة، فضلا عن أسر أهل الطالب جدو، وأهل زيدون، وأهل صلاحي، وأهل اعلي وركان، محمد، وزوجه مريم، وهي امرأة بالغة التدين، والبنيّة الصغيرة كمبان.

وعلى بعد نحو مائتي متر من أهل اعلي وركان، يوجد منزل أهل أنمراي، وكان والدهم أنمراي، رجلا عظيما، يطفح بالنشاط والحيوية، فهو حلاّق المذرذره المعتمد، وصاحب أجمل حديقة في المدينة، ومؤذّن المسجد، والفنّي المشرف على منشآت ضخ المياه.

وغير بعيد جنوبا، كان يقطن أهل البواه، وقد عمل والدهم، الداه، سنوات طويلة، مراقبا في مدرسة "فولانفاه"، أما ابنه دياه، فقد أصبح فيما بعد ضابطا في الجيش الوطني.

وكان في جوارهم أهل امَـن، وكان ابنهم حدُو رحمه الله صديق طفولة وزميل دراسة.

أما الكود، أو السهل المنخفض الذي يفصل بين المدينة وبين كثبان المذرذره البيضاء الأسطورية، فيأوي مصالح المياه، والغابات، والبيطرة، والمجزرة، ومنشآت ضخ المياه، والآبار .. بئر المدينة، وبئر المياه، والغابات، (حاسي أهل الصدر)، وبئر بديوره.

وفي الكود، كان يقيم صديق طفولة، فقدت أثره، "إبنو انجاي Ibnou Ndiaye" نجل طبيب بيطري خدم في المذرذره في بداية الستينيات، وقد كان أطفال خلفه، ولد حيبلتي، الطبيب البيطري المنحدر من البراكنه، زملاء في مدرسة "فولانفاه".

وكان الكود موئلا لأهل امبارك اللوصاي، وأهل العالم، وأسرة أصلها من بوتليت، أهل ممادي، وكان والدهم أحمد، حفّار آبار، وابنه إبراهيم، زميل دراسة، كتب لي أن أراه مرتين أو ثلاثا في نواكشوط في منتصف الثمانينيات.

دون تحضير مسبق، ودون سبب وجيه، عدت إلى المذرذره في بداية شهر أكتوبر 2010، فوجدتني أتسكّع في الشوارع على غير هدى، كما كان يفعل يوميا محمد ولد بركه، وبايني، والنماه، ودويدن، وبنت امنها .. فعلى غرارهم، جبت المدينة عرضا وطولا ..

وأثناء تجوالي، حاولت أن أرصد أدنى أثر لما عهدته من قبل .. أزيز شاحنة تي 46، ضوضاء الأطفال وقد تداعوا إلى دار الأشياخ، رنين جرس مدرسة "فولانفاه"، صهيل فرس اعلي ولد الميداح، ضربات طبل اماشن، أذان أنمراي ..

لقد كانت محاولاتي ضربا من العبث .. كانت المذرذرة الممتدة أمام قدمي غريبة عني تماما .. والوجه المتجعّد الذي كانت تعيده إلي مرآة سيارتي الداخلية، لم يكن هو أيضا وجهي .. لقد تبدّلت الأمور بعمق مع مرور الزمن .. تغيّرت المذرذه كثيرا، وتغيّرت أنا أيضا.

عدت أدراجي حائرا مضطربا، وأسرعت الأوبة إلى نواكشوط، ولم يبق لي سوى عزاء واحد، أن أحمي بغيرة تلك الصورة الصادقة الحية والمرحة التي أحمل للمذرذره في قلبي، صورة المذرذره أيام طفولتي.



بقلم: محمد عبد الله بزيد
ترجمة: محمذن بابا ولد اشفغ
نقلا عن المذرذره اليوم..














 

ليست هناك تعليقات: