يحكى في هذه الربوع من برك الغماد أن أحد الرجال الأبطال سافر يوما على جمل له ذي مكانة عنده.. و استمر السفر حتى الليل.. فانتهى به المسير في غيضة كثيرة الوحوش المفترسة.. فلم يكترث لذلك, و أنزل رحله و بقية متاعه و قيد جمله ثم أرسله..
نام الرجل ملء جفونه حتى الصباح.. فهب و صلى نافلته و فرضه و أخذ عصاه ليتقفي آثار جمله..
لم يكد الرجل يسير بعيدا حتى وجد آثار معركة طاحنة.. لقد افترس الأسد جمله الغالي.. كان بإمكانه أن يعود إلى مكانه ليحضر بندقيته و لكن ذلك قد يفوت عليه فرصة القبض على هذا العدو الغادر..
أسرع الرجل خطاه على إثر الأسد الذي أكل من الجمل مبتغاه و لم يعد ينقصه إلا مكان للراحة بعد ليلة شاقة من الاصطياد و مقارعة الأبطال.. بعد مسير ليس بالقليل و بعد أن فكر الرجل في كل الطرق التي يقبض بها على هذا الأسد فور ما يراه.. إذا به يغط في نوم عميق بين جذعي شجرتين..
قال المتنبي في مدحه لبدر بن عمار إنه عفر ليثا بسوطه.. و لم يكن ذلك الأسد في منتهى البساطة.. لقد وصفه المتنبي بقوله:
ورد إذا ورد البحيرة شاربا ورد الفرات زئيره و النيلا
يطأ الثرى مترفقا من تيهه فكأنه آس يجس عليلا
وقعت على الأردن منه بلية نضدت بها هام الرفاق تلولا..
كان أسد الرجل من هذا النوع من الأسود و لكن الرجل لم يكن بدرجة بدر بن عمار.. بيد أنه عندما رأى الأسد في تلك الوضعية اقتحمه.. فأمسك ذيله وضربه بعصاه و ثبت قدميه في جذعي الشجرتين.....
الأسد الرهين صار في وضعية لا يحسد عليها: فالشجرتان تمنعان التفاته إلى اليمين أو إلى اليسار و إمساك الرجل بذيله يمنعه من التقدم و شجاعته الأصيلة فيه تمنعه من الرجوع إلى الوراء..... و الرجل هو الآخر في وضعية لا يحسد عليها: فبقاؤه على هذه الوضعية كفيل بالقضاء عليه مشقة و عطشا و جوعا و رهبة... و إطلاقه للأسد كفيل بالقضاء عليه و جعله فريسة لهذا الأسد الضاري و الغضبان.. تماما كرؤساء العالم الثالث الذين يوجدون في وضعية لا يحسدون عليها: فتركهم للسلطة تجعل منهم مجرمين في حق شعوبهم و يجرهم ذلك إلى المحاكم, و بقاؤهم في الحكم يجر لهم رياح التغيير في ما عرف مؤخرا بالربيع العربي..... أمران أحلاهما مر.. كما قال أبو فراس الحمداني....
زالت الشمس عن كبد السماء و الأسد يجذب إلى الأمام و الرجل يجذب إلى الخلف.. محصلة القوى لم تتراجع عن الصفر منذ الصباح.. و لكن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا فلا بد من حل ما لهذا المشكل..
لقد فكر الرجل في أن يرسل ذيل الأسد ويهرب راجعا.. هل يكفي الوقت الذي سيلف فيه الأسد حول إحدى الشجرتين لينجو الرجل بنفسه؟ لا .. بطبيعة الحال!
فكر أن يرسل الذيل و يتماوت, فقد سمع في بعض القصص أن الأسود تأنف من افتراس الجيف.. لا يمكن أن نكل أنفسنا إلى نظريات لا تمكن برهنتها....
لو كان لديه حبل قوي و ربط به الذيل مع جذع الشجرة..!!
خطام الجمل لا يكفي لذلك.. و لو كانت للرجل يد ثالثة لأمسك بها الذيل أكثر.. فقد بدأت يداه تتعبان من الشد إلى الخلف..
لم يكن كثير الالتفات في هذا اليوم و لكن.. هذا راكب على جمل يريد أن يتجنب المشهد الذي رأى من ضمنه هذا الأسد الضاري....
صرخ الرجل على الراكب قائلا: " هيا.. أنخ جملك وخذ العصا و اضرب بها الكلب على الرأس ليموت و نرتاح منه.. ", فرد الراكب أنا على استعداد لذلك.. و لكن ضربة مني لا تقضي على هذا الهزبر الضرغام... فقال له الرجل: "أمسك الذيل مكاني هنا لترى ما سأفعله لك".
أمسك الرجل بالذيل و ثبت رجليه في أصلي الشجرتين منتظرا من صاحبه أن يرسل الضربة القاضية إلى جمجمة الأسد.... فأخذ الرجل العصا و توجه إلى الجمل و ركب قائلا لصاحبه: "أمسك جيدا فالأسد غاضب و قد مكث طويلا في هذا السجن.. و ضرب الجمل ليجد في السير......
شفيق البدوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق