تؤكد
الاستقراءات التي تحصَّلت عندي أن مادة التبغ وصلت إلى موريتانيا مبكرا بل قد
تكون موريتانيا من أولى مناطق شمال إفريقيا وغربها التي عرف سكانُها التدخينَ
تجارةً ومارسوه عادةً،
وبحث فقهاؤها حكمه
وعرضوه على محك الشريعة ليعرفوا أهو حلال أم حرام؟
الموريتانيون من أول تعاطى مع
التدخين استعمالا وفقها
وصل التبغ أو
"امَّانَيْجه" إلى موريتانيا عبر التجارة الأطلسية مع البرتغاليين في
القرن السادس عشر فعرف سكانُ بلادِنا هذه المادةَ في وقت مبكر نسبيا ومن هنا من
موريتانيا ذهب التجار والرحالة بالتبغ مع غيره من المواد المحلية شمالا نحو
المغرب. وفي الوقت الذي كان علماء تنبكتو وولاتة وودان يتطارحون فتاوى في شأن
التبغ فإننا لا نجد له ذكرا موثقا في المغرب ولا الحديث عنه في متون النوازل
المغربية إلا ما سيحصل في وقت متأخر جدا عن الفترة التي كان الموريتانيون
يتحدثون عنه. فمن هنا ومن الربوع الموريتانية توجه التجار بالتبغ نحو أسواق
تافلالت والسوس بالمغرب فانتشر هناك، ومن هذه الربوع أيضا كانت أولى الفتاوى
الفقهية المالكية المتعلقة بحكم التبغ.
altالتبغ من
اللفظ الإسباني "تاباكو" (Tabaco) المأخوذ من لهجة
الأراواك، وهم من قبائل الهنود الحمر البائدة، وكانوا أول من استوطن جاميكا
وهايتي وكوبا ومن أول من احتك بالمستكشفين الإسبان نهايات القرن الخامس عشر
الميلادي. وتعني "تاباكو"
آلة التدخين عند الأراواك. ومن باب المجاز انتقل اللفظ من الدلالة على آلة
التدخين إلى الدلالة على مادته وهو ما يسميه أهل البيان باستعمال المحل للدلالة
على الحالَّ به (بتشديد لام الحالّ). ومن الإسبانية أخذت لغات العالم لفظ
"تاباكو" وعبرت عنه كل لغة بطريقتها الخاصة فصار في لغتنا العربية
يعرف بالتبغ أو الطبغ في بعض المناطق المغاربية، وفي الفرنسية
(Tabac) وفي الإنجليزية (Tobacco) وفي البربرية يسمونها "تباكه".
أما في لهجتنا الحسانية فيطلقون في
الاستعمال الدارج على التبغ لفظ "امَّانيجَه". ويبدو لي أن
لفظ امَّانيجَه مأخوذ من البرتغالية حيث يقول البرتغاليون لقبضة اليد من التبغ:
"manejatabaco". فلعل البرتغاليين أثناء
المقايضة التجارية والتبادل مع الموريتانيين كان يجعلون القبضة من التبغ وحدة
التبادل، فصار لفظ القبضة أو "امَّانَيْجه" علما بالغلبة على التبغ.
وقد يصير علما بالغلبهْ ۞ مضافا أو
مصحوبَ "أل" كالعقبه
كما قال صاحب الألفية في قاعدته
اللغوية الجميلة.
أوصل الأوروبيون وخصوصا البرتغاليون
التبغ إلى الشواطئ الموريتانية ودخل في التبادلات التجارية بينا وبينهم، وما
لبثت هذه المادة أن انتشرت في حوض نهر السنغال ثم انتشرت في حوض نهر النيجر
وأصبح التدخين عادة منتشرة هنا وهناك وبعد ذلك ذهب رماة الجيش المغربي السعدي
ورسلهم بداية القرن السابع عشر بعد سقوط تنبكتو بالتبغ للمغرب بعد أن تعرفوا
عليه في تنبكتو وما يليها من المناطق.
وفي هذه الفترة ألف الفقيه الجليل
أحمد بابا التنبكتي وطنا الوداني أصلا المتوفى في إبريل 1627م رسالة سماها
"اللُّمَعْ في حكم شرب طَبَغْ"، وقد هذا الفقيه بجواز التبغ وهي فتوى
من أول ما ألفَه علماء المالكية في حكم التبغ كما أنه بداية اهتمام فقهاء
منطقتنا بالتدخين وحكمه الشرعي وبذلك كان لفقهائنا السبق في هذا المجال من
النوازل.
ولن نصل إلى سنة 1602 حتى نجد
السلطان المغربي أحمد المنصور الذهبي السعدي يستفتي فقهاء المغرب عن حكم التدخين
الذي سرت عدواه إلى المغرب فأفتاه محمد بن قاسم القصار وسيدي عبد الله بن حسون
بتحريمه ووجوب إتلافه. وقد أمر حينئذ السلطان المنصور الذهبي بانتزاع التبغ من
باعته، فكدس أكواما في ديوان فاس الجديد وأحرقها على رؤوس الأشهاد. غير أن مدة
اختفاء التبغ من الأسواق المغربية لم تطل فتجدد رواجه في غمرة الفتن التي أعقبت وفاة
أحمد المنصور الذهبي.
ومن أبرز من أفتى بجواز التبغ
العالم المالكي المصري علي الأجهوري وذلك في رسالته: غاية التبان لحل شرب ما لا
يغيب العقل من الدخان، رد فيها على إبراهيم اللقاني ومؤيدا وجهة نظر ابن أبي
محلي في حلية التبغ. وكان ابن أبي محلي قد ألف رسالة مطولة دعاها "الحكاية الأدبية والرسالة الطلبية مع الإشارة الشجرية"
وبعث بها إلى شيخه سالم السنهوري إمام المالكية بمصر سائلا عن حكم الدخان تناولا
وتجارة وزراعة، مناقشا أدلة التحريم مستبعدا لها. وقد اختلف فقهاء مصر وخصوصا
المالكيين منهم فحرمها إبراهيم اللقاني في رسالته: نصيحة الاخوان باجتناب
الدخان. وحللها الأجهوري.
وسار أغلب متأخري المالكية من
موريتانيين وغيرهم على رأي الأجهوري و أحمد بابا التنبكتي في حلية التدخين. ومن ذلك الشيخ محمد الماميlي
الذي قال في حكم استعمال (امَّانَيْجه):
فاسلك بها سبل التحليل أو شبها ۞
كأنها ظعن من دونها جبل
رميتها في سواد الليل جافلة ۞ رميَ
الغزال الذي يعزى له المثل
ويشير الشيخ محمد المامي في بيتيه
وقد بحث أدلة المحللين وأدلة المحرمين للتبغ إلى أن الحلية قد تكون الأنسب
(فاسلك بها سبل التحليل). وفي الشطر الأخير يشبه حاله وقد جال في كتب الفقه بحثا
عن حكم التبغ بحال ذلك الرامي الموريتاني الماهر المشهور في المثل الحساني
"غزال ولد ارڮَيڮَ" وهو رجل رام كان أحس بغزال ليلا فرماه دون أن
يراه، فقالوا له أخطأته فقال: "ألا اكتلتو وللَّ خصرت اعشاه".
وقد ظل الأصل البرتغالي الأوروبي
للتبغ حاضرا في الأدب الموريتاني من ذلك قول الشاعر المجيد امحمد بن أحمد يوره
رحمهما الله في نظمه لبعض قصص أحمد بزيد بن يعقوب الجد الجامع لأهل بارك الله
رحمه الله:
ءُڮَالت الاخرَ دَيْرَه من دارْ ۞
نصراني هك ابْديراتُو
وهما "تافلويتان" من طلعة
امحمد الشهيرة:
ننظمْ لأغلَ غِيدْ التشهارْ ۞ أخبار
اصحيحَه من الاَخبار
"بزيد" امشَ واعد
ڮَنّار ۞ هوّ وامناتُوواخواتُو
باتُو فابلد ما فيه اعمارْ ۞ غير
ألا من كيفن باتو ...
إلى آخر النص.
وكنت قد زرت سنة 2001، صحبة الباحث
الألماني الشاب فيليب كولترمان، منطقة الجُريدةِ التاريخية وهي إلى شمال العاصمة
نواكشوط وتعرف قديما بانْجَيْلْ للوقوف على بعض معالمها التاريخية وخاصة ما تبقى
من آثار الدار التي بناها الهولنديون بها منتصف القرن السابع عشر. وقد عثرنا على
بقية مما ترك أولئك الهولنديون ومنها غليون للتدخين أبيض اللون من مادة جيرية
كان من بين الآثار التي سلمناها بعد ذلك للمعهد الموريتاني للبحث العلمي. ويشبه
هذا الغليون إلى حد كبير "الطوبة" المعكوفة التي تستعملها بعض النسوة
الموريتانيات للتدخين.
يسمي الشعراء الموريتانيون التبغ في
شعرهم: "طابِه" وهو قريب من اللفظ الفرنسي (Tabac)،
ويسمونها ذات الدخان. يقول امحمد بن
أحمد يوره رحمهما الله:
عللوني بشرب "طابَه"
المصون ۞ واعذلوني في شربها أو ذروني
إن قلبي به تدور شجون ۞ دوران
المجنون والمنجنون
وللمختار بن حامدن رحمهما الله
تعالى مقامة أدبية بسط فيها مناظرة شيقة بين الشاي وطابة (التبغ) وقد أبدع فيها
وأجاد.
صدرنا التبغ للمغرب فصدر إلينا
الشاي
altعرفت
موريتانيا الشاي أو الأتايْ في فترة متأخرة مقارنة مع تداول التبغ وانتشاره في
بلادنا. وإذا كنا بموريتانيا قد أصدرنا للمغرب التبغَ مع بدايات القرن السابع
عشر الميلادي فإن الشاي جاءنا من الشمال كما يؤكد الباحث الفرنسي الخبير بالشأن
الموريتاني ألبير لريش؛ إذ يرجح أن الشاي دخل موريتانيا ما بين 1858 و1875.
ويذكر لريش نقلا عن المختار بن حامدن أن التاجر السباعي عبد المعطي وهو من أولاد
البڮار كان أول من استورد مادة الشاي إلى موريتانيا وكان ذلك سنة 1875.
كان ذلك في عهد أمير
آدرار العادل أحمد ولد امحمد رحمه الله تعالى الذي شجع هذه الحركة التجارية بل
إن الأمير أحمد ولد امحمد كان على تواصل مع المغاربة والإسبان وكانت له
ديبلوماسية حيوية مع هذه القوى الموجودة بشمال بلادنا. استقبل أحمد ولد امحمد
سنة 1880 وهو فيتنواكة بشمال البلاد وفدا من السلطان المغربي الحسن الأول محملا
بهدايا سنية. كما استقبل سنة 1886 وفدا إسبانيا وهو في كدية الجل بشمال البلاد
أيضا، وقد بحث ذلك الوفد معالأمير الآدراري سبل إقامة علاقات تجارية بين إسبانيا
وموريتانيا وخصوصا منطقة آدرار.
وهذه الإشارات توحي بأن عهد الأمير
أحمد ولد امحمد كان عهد تواصل مع الدول المجاورة وعرف تشجيعا للتبادل التجاري
وفي هذا السياق التاريخي دخل الشاي إلى بلادنا على يدي عبد المعطي السباعي
البڮاري.
وتؤكد أبيات العلامة الجليل بابا بن
الشيخ سيديا رحمه الله الاصل المغربي للشاي فقد كان يستورد إلى هذه البلاد من
طنجة بشمال المغرب:
يُقيمُ لنا مولايُ والليلُ مقمرٌ ۞
وأضواءُ مِصباح الزجاجة تُزْهِرُ
وقد نسَمَت ريحُ الشمال على الرُّبى
۞ نسيما بأذيال الدجى يتعَثرُ
كؤوسًا من الشاه الشهيِّ شهيةً ۞
يطيب بها ليل التمام فيقصُرُ
تُخِير من تجار طنجة شاهُها ۞ وخِير
لها من تلج وهران سكّرُ
أدب الشاي .. الرأي والرأي الآخر
altكما تعرض
الفقهاء لحكم التبغ فإن الشاي دخل هو الآخر فقه النوازل من بابه الواسع فاختلف
الفقهاء في شأنه بين محلل ومحرم. ومن العلماء الذين ساروا في اتجاه القول بالمنع
العالم المؤلف محمد الحسن الشهير بلقبه: بيدَرْ ولد الإمام الجكني الڮلالي رحمه
الله المتوفى سنة 1952 حين يقول:
إن الأتاي وإن سحت سحائبُه۞لم
يجدِ شيئا به تقوى مذاهبه
لم يغن عن غيره يوما
وقيمته۞يوما بها يكتفي الأيام صاحبه
وما يجر له إلا
حلاوته۞لدى الحساة وذا يدريه راغبه
وفعله دائما جرا
حلاوته۞فيه ارتكاب الهوى المنهي راكبه
من أجل ذا صار مجموع الأتا سرفا۞لا
تسرفوا قال من تخشى عواقبه
وعلى نهج بيدر ولد الإمام سار
العالم الأديب بابه بن محمودا بن محنض بابه الديماني رحمه الله حين قال:
نحِّ عني الأتايَ إن ارتشافِي۞لكؤوس
من الأتاي ضلالُ
تَلَفُ المالِ واستدارة شِرْبٍ۞
وفضولٌ من المقال يقالُ
وكفاهُ أن الأطباءَ قالوا ۞ إنه في
الجسوم داءٌ عضالُ
وكان يحظيه بن عبد الودود الجكني
رحمه الله الشهير بلقبه "ابّاهْ" لا يرى شرب الشاي حتى عالجه الطبيب
التقليدي الماهر محمد ولد أوفى بالشاي فقال أحد ظرفاء تلامذته في أسلوب يجمع بين
الحسانية والفصحى:
إنَّا لأتايَ علي التحريم
"جَبَّاهُ" ۞قوم وأولُ من "جَبَّاهُ"أبّاهُ
داواهُ بالشاي طبّابٌ فقال له۞لبِّ
النداء علي شايٍ فلبّاه
لكنَّ العلامة محمد العاقب ولد
مايابى الجكني رحمه الله تعالى كان يرى التخفيف في شأن الشاي ويذهب إلى إباحته:
أتانا "أتايٌ" لابس ثوبَ
شبهة۞تنازعه فيه الإباحة والحظر
فطورا له شبه العسول وتارة۞يريك
بكبريائه أنه الخمر
هو الخمر إلا أن فيه منافعا۞وليس به
إثم كبير ولا سكر
وعلى نهج ابن مايابى سار العالم
الشاعر أبو مدين بن الشيخ أحمدو بن سليمان الديماني رحمهم الله حين قال من قصيدة
رائعة:
ألا فاسقني كأساتِ شاي ولا تذرْ
۞بساحتها من لا يعين على السمر
فوقت شراب الشاي وقت مسرة۞يزول به
عن قلب شاربه الكدر
وأدب الشاي أوسع ورمزيته في الثقافة
الموريتانية أعمق ومكانته في الحياة الاجتماعية أعرق من أن يتسع لها هذا المقال.
وقد نشر الكثير من المدونين والكتاب على الشبكة نصوصا أدبية فصيحة وحسانية
وأخبارا تاريخية عن الشاي. وكان أحد الظرفاء قد قرر تغيير بعض
عاداته الغذائية ونظم ذلك في هذا الڮاف فقال:
اتركتْ الدَّيْرَه بالتغريشْ ۞
وأتايْ اعزمتْ اعلَ ترْكُ
ءُ لاَ فتْ اعرفتْ آنَ والعيْشْ ۞
فالتركْ أشلاهِي نشتركُ
انتهى.
سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم بقطر
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق