بسم الله الرحمن الرحيم..
من سيديَ بن محمد إلى السيد الفاضل ابن سلالة السادة الأفاضل، الأخ سيدي محمد بن أحمد بن حبَتْ، رحم الله تعلى السلف وبارك في الخلف. آمين. سلام عليكم ورحمة الله تعلى وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،
أما بعد، فقد رأيت كتابك الكريم وخطابك الوسيم، وإني أرى أنه لا يخفى عليك عدم القدرة على الجهاد من كل وجه. ولا يخفى عليك أن الجهاد وسيلة مقصِدها إعلاء كلمة الله تعلى؛ وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصِدها لم تشرع؛ وأن هذه المسألة تخفى كثيرا على أهل الفقه.
ولا يخفى على الناظر عدم قدرة سكان البلد على الجهاد من كل وجه. فإذا تُحقق أو ظُن عدم اتحاد الكلمة على السلطان القاهر وعدمُ بيت المال وعدمُ السلاح المماثل وعدمُ العدد المكافئ وعدمُ الصنائع المقاومة ونحوُ ذلك من سائر أسباب القوة، فقد تُحقق أو ظُن أن الثمرة إنما هي خلاف مقصِد الجهاد. وبذلك تصير دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ضائعة في غير ثمرة تجنى. فيصير الجهاد مضرة خالصة فيكون فتنة من الفتن، هذا إضافة إلى أن أهل الفساد يجعلونه ذريعة لاستئصال شأفة المسلمين. والعيانُ مُغْنٍ في ذلك عن البيان والوصفُ فيه قاصرٌ عن البيان.
ولا يخفى أن المسلمين في هذا القطر البيضاني الآن أسوأ حالا وأضيع أنفسا ومالا بسبب ذلك من السودان الذين في ملكة هذا الجنس منذ حين. بل لا نسبة بينهم وبينهم.
فهؤلاء في عذاب أليم وأولئك في نعيم.
مع اتفاقهم على أن دينهم منذ ملكهم لم يزل في زيادة صلاح.
فقد كان جلهم كفرة فصار جلهم مسلمين. وكانوا يتقاتلون دائما ويتناهبون وينهبون من دخل أراضيهم من تجار المسلمين. فصارت الحال بخلاف ذلك كله.
وصارت أرضهم الآن جنة من جنان الدنيا أمنا وعافية ومعاشا.
وتيسر الحج وسائر العبادات والأسباب فيها غاية. فليس شيء أرفق ببيضان هذا القطر ولا أصلح لهم من أن يصيروا مثلهم.
ولولا وخامة تلك الأرض على البيضان لارتحلنا إليها منذ سنين ورأيناه أصلح لسائر المسلمين.
وقد علمنا حال المغرب الأوسط المعروف بأرض الجزائر وقد ملكه الفرنسيس منذ نحو سبعين عاما، وحالُ تونس وقد ملكوها منذ نحو ثلاثين سنة، وحالُ اتْوَاتْ وسائرِ التَّكْرُورْ. وقد علمنا حال مصر والهند وجَاوَه وهَوْصَ بعد ملك الإنجليز لهم. فلم يزل الدين قائما في هذه الأصقاع وأهله في عافية. وإن قُدِّرَ بعضُ المفاسد فمفسدة السيبة أو الحرب مع العجز عنها أعظم.
ومن القواعد المجمع عليها: وجوبُ ارتكاب أخف الضررين وتركُ أعظم المفسدتين.
وقد عُلم ما نصوا عليه من احتمال بعض الضيم للمصلحة أخذا من قضية صلح الحديبية، إذ صالحهم صلى الله عليه وسلم على رد من جاء مسلما وهم يعذبونه ليردوه إلى الكفر نظرا منه صلى الله عليه وسلم إلى مصلحة أعظم،
وانظر إلى إرسال إبراهيم عليه الصلاة والسلام بسَارَة إلى الجبَّار.
وكلا الأمريْن في صحيح البخاري وقد تكلم عليه الحافظ في فتح الباري؛ ونصوص الفقهاء طافحةٌ بهذا المعنى في عَقد الجزية ونحوه.
وأما أمر الاصبنيول في الأندلس فحالُ النصارى إذْ ذاك خلاف حالهم الآن، فقد تقرر في قوانينهم المتفقِ عليها بينهم منذ حين عدمُ التعَرُّض لإحد من أهل الأديان، كائنا من كان، وأن من تعرّض لصاحب دين من المسلمين أو غيرهم يُعاقب عقوبة شديدة. وقد شاهدنا مصداق ذلك؛ وقد رأينا من أسلم من الفرنسيين وغيرهم في انْدَرْ وانْدَكَار لا يعرضون له بقليل ولا كثير، بل يكادون تكون النصرانية وسائر الملل عند جمهورهم الآن سواء. بل عوْنُهُم على إظهار شعائر الإسلام ببناء المساجد وإقامة الأئمة فيها والمؤذنين والقضاة والمدرسين وإجراءُ أرزاقهم من بيت مالهم كلَّ حين أمر مشهور. وغير مستحيل على الله تعلى وقدرته أن يؤيد دينه بالمخالفين أو يقودهم إلى الدخول فيه، كما فعل بالديلم والسلجوقيين وبني عثمان والله على كل شيء قدير.
وقد حادت هذه الأمة، أقال الله عثرتها، عما كان عليه سلفها الصالح، فاتبع الأمراء الشهوات وابتدع العلماء والصالحون البِدع، وطلبوا الدنيا بالدين، وبقيت العامة حَيَارَى لا يجدون مرشدا ولا يهتدون سبيلا، فتخلف النصر عنها وظهر عليها مخالفوها فلا ترى شبرا من الأرض منذ حين فتحه المسلمون، ولا تزال ترى إقليما فتحه النصارى. ولا يزال ذلك ما لم تراجِعِ الأمةُ دينَها وتُخلِصِ اتباعَ سنة نبيها عليه الصلاة والسلام. ولما أراد الله تعلى إنفاذَ أمره بذلك ألهَمَ بعظيم فضله وجميل لطفه ومحكم تدبيره أجناس النصارى أن لا يعرضوا للدين إلا بما يعين أهله ويصلح بلادهم فله الحمد والشكر.
وأما الهجرة فلا تجب إلا عند التعرض للدين وعدمِ التمكُّن من إقامة شعائر الإسلام، فإن البلد الذي تظهر فيه شعائر الإسلام بلد إسلام. بل قال بعض العلماء إن الإقامة مع الكفار وإظهار شعائر الإسلام بينهم أفضل من الهجرة. انظر فتح الباري والقسطلاني في مواضعه.
وأما كلام المعيار وتابعيه، فمع تيسُّر الهجرة من بلاد الأندلس إلى بر العدْوة ومع وجود طائفة لها سلطان وقوة تجاهد في سبيل الله ومع تعرُّض الاصبنيول (الإسبان) حينئذ للدين، إلى غير ذلك. فأين الحال من الحال؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون على تراجع الدين والعلم واتباع الهوى والجهل.
وإنه لا يخفى علي أنك لم ترد بهذا الأمر أكْلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكن أرى أنك لم تمعن النظر في أحوال الزمان والمكان؛ ومثلُك إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر, والله تعلى يوفقني وإياك وسائر المسلمين. آمين.
فأرى أن ترجع عن هذا الأمر وتجعل ذلك قربة إلى الله تعلى، فقد ضاع فيه من دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ما لا يحصى، وإن مثلك من نظر للمسلمين وقاد العافية إلى المساكين.
وقد كلمت نائب فرنسا هنا في أمرك فآمنك ولله الحمد، وأمر أن تأتيه في ثمانية أيام ولا تتأخر عنه، فتلتقيان وتقرران كيفية الصلح والعافية، فأرى أن تفعل ذلك عاجلا، فهو خير في العاجل والآجل إن شاء الله تعلى,
والسلام عليكم ورحمة الله تعلى وبركاته.
لثلاث بقيت من جمادى الآخرة عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
من تدوينة للأستاذ يوسف ولد هارون على الفيس بوك
مراسلون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق